هذا مقال لم اكتبه بل سجلته. انه مجرد أسئلة جاءت على لسان "جيوش ميتة" تملأ أشباحها شارع السعدون حين يغادره الجميع منتصف الليل. ان بغداد اكثر من صدمة بالنسبة لطارئ عليها مثلي، حلم بمجدها كثيرا وهي تتغنج، في كتب الشعراء ومسجلي سير الملوك وحكايات الآلهة الشرقية. هذه المدينة التي كانت "روح العالم" تظهر لي كل ليلة وانا عائد الى المنزل، على هيئة رجل يحرس السيارات خلف سينما أطلس ويسرد مصائر الناس ويتغزل بدبابة محترقة شرقي البصرة دون أن يجد ثمن دواء الربو.
هذا امرؤ من لحم ودم يحلم بدبابة جديدة لولده، ويبكي بحرقة في قلب شارع عبد المحسن السعدون. وفي حكايات هذا الرجل تطوف صور ساسة فاسدين كفوا عن الانتحار، وأشباح مقاتلين موتى يعودون إلى بغداد كل ليلة فلا يعثرون عليها.
خلف سينما أطلس يقف حارس السيارات ليدير كراجا وهميا حتى ساعة متأخرة ثم يعود الى بيته بزاد يوم وليلة. وكلما انتهينا من وضع المانشيتات ورصف الأخبار وغادرنا الجريدة، رأيناه يقف للحراسة.
والبارحة كما في ليال سبقتها، قرر ثانية أن يحكي لي كيف كان "يذود عن البوابة الشرقية" وأفنى شبابه على تخوم المحمرة وعبادان وتذوق هزائم حفر الباطن. المحارب القديم يائس ومفلس وبدل أن يجد من يواسيه كسائق دبابة قديم، بات معدما بلا مواساة ويحرس هذا الكراج غير المرخص. انه يعتقد أن كل من ظهر على شاشة التلفاز، لديه كلمة مسموعة عند السلطان، فيصف لي حال عياله ويمسك بعلبة دواء الربو الفارغة ويردد انه لا يملك ٣ دولارات لشراء واحدة جديدة. لقد حفظت حكاياته التي يكررها كل ليلة، لكنه البارحة كان يبكي بحرقة ويشعر بغصة محارب قديم جلس عمرا كاملا خلف مقود دبابة لحراسة وطن، وحين عاد إلى منزله بعد ٢٠٠٣ قالوا له إن دبابته المحترقة كانت جزءا من حرب غاشمة، فلم يحصل على معاش ولم يعثر إلا على كراج وهمي. لقد أفنى عمره مع دبابات تحترق وعايش "حروبا غاشمة" ثم انتهى به المطاف واقفا أمام كراجات غير مرخصة، ومع ذلك لم يعد يجد ثمن بخاخ الربو.
يا حاج هل تسمح لي وأنا بعمر أولادك، أن اشتري لك الليلة دواء الربو؟ يرمي في وجهي النقود، وعلى وجهه ما تبقى من كرامة هذه البلاد، ويظل يسأل بهستيريا وهو يشتم هادي العامري وصالح المطلك ويقول لي: انتم المتفلسفون على شاشات التلفاز، عليكم أن تشرحوا لي قضايا كثيرة.. هل حقا ان أمثالي افنوا أعمارهم في حرب وهمية؟ لماذا لم تمزق جسدي قذيفة من تلك التي أحرقت مدرعاتنا واستقرت شظاياها في جسدي مرارا على ضفاف شط العرب؟ لماذا كان علي ان أعيش وابكي وحيدا هنا؟
ان اسئلة هذا الوطن هي الأصعب عبر التاريخ، وأحلامه البسيطة أيضاً. كل ما يحلم به هذا المحارب القديم في بلد يقوده العساكر، أن يحصل ابنه على دبابة حديثة. ابنه الشاب العاطل سبق ان انخرط في الجيش ايام إبراهيم الجعفري ودربه الأميركان على تشغيل الدبابات الروسية. لكنه أصيب في معركة مع القاعدة بتكريت ورقد شهورا في المنزل ثم تخلف عن الالتحاق بكتيبته مترددا بشأن حروب هذه الأيام. يفكر كثيرا بحروب أبيه "الغاشمة" ودباباته، وعساكر هذا الزمن وإرهابييه وعبواته الناسفة. جيلان في عائلة واحدة تخط مصيرهما رائحة البارود ومسارات القذائف في السماء. هذا الشاب الذي تذوق جسده طعم عبوات القاعدة، يتذوق اليوم طعم البطالة، والفقر يدفعه إلى الحلم بالعودة لكتيبة الدبابات، وضوابط جيش السلطان لا تحقق له هذا الحلم. ولم تنفعه حتى الرشوة التي دفعها قرب مدخل المنطقة الخضراء عند "فلافل حيدر دبل". لقد أصبح جنديا هاربا ممنوعا من العودة للجيش، موصوما بالعار ومحكوما بالعطالة، بالضبط كما أصبح ابوه محكوما بعار "الحروب الغاشمة" التي افنى عمره يحرس دباباتها.
المحارب القديم يقف وحيدا ويستغيث ويطرح علي اسئلة كثيرة عن الماضي ويأمل ان اجد له بين "معارفي المهمين" مسؤولا يعيد ابنه لكتيبة الدبابات الجديدة، وأنا مجرد كاتب منهك من صياغة أخبار لا تحبها الحكومة، والرجل لا يصدق هذا.
أمام هذا الكراج الوهمي خلف سينما أطلس، أتذكر مشهد كهف موحش من فيلم "سيد الخواتم" واشعر للحظة ان العراق كله ينزوي هنا على هيئة محارب قديم عاش قرونا من الوهم. وفي حكايات هذا الرجل تطوف اشباح مقاتلين موتى يعودون الى بغداد كل ليلة فلا يعثرون عليها. كل ما تبقى من هذا المحارب بكاء واسئلة صعبة واحلام خريف العمر، يسمعها عند الفجر تمثال عبد المحسن السعدون. اقف قبالة التمثال انتظارا للتاكسي في شارع مظلم وفارغ، ومثل معتوه خائب، يثقب رأسي صوت أحذية جنود ماتوا في كل الحروب، وأشباحهم تملأ الشارع الموحش وتتزاحم على باب سينما لم يعد لها وجود. وكمعتوه خائب أشاكس تمثال هذا الزعيم البصري المنتحر قبل ٩٠ عاما: هل تسمع مثلي اسئلة الجيوش الميتة التي لا تزال تتقن مشية العسكر و"تأخذ لك التحية" كل ليلة حين تمر مهزومة قربك؟ لماذا لا نجد إجابات مقنعة حين يجادلنا فقراء يتزايدون، ولا يجدون ثمن دواء الربو أو وظيفة في جيوش هذا الزمان؟ ما بال السلاطين يتكاثرون وتمتلئ جيوبهم من عمولات فاسدة لشراء المزيد من الدبابات! ماذا في وسع بغداد ان تفعل سوى ان تجعلني اسمع نشيجا آخر "لمقاتلين موتى" يحرسون سينما أطلس حين يغادر الجميع شارع السعدون؟
جميع التعليقات 3
شبح الظلام
انا لا اهتم اذا ما كان احد يصدق او لا يصدق المهم اننا نوجد نحن الاشباح الشخص الذي لا يصدق فهو مجنون واحمق كبير لان الله سبحانه هو خالقنا ايها البشر البائسون ...
احمد
و لذكريات الزمن الآتي أن تحاكم عقولنا و تحاسبنا على أساس أن حروب اليوم غير مشروعة، ما هو الضمان أن لا يقال للابن ما قيل للأب في وطن التناقضات الازلية؟!
احمد
و لذكريات الزمن الآتي أن تحاكم عقولنا و تحاسبنا على أساس أن حروب اليوم غير مشروعة، ما هو الضمان أن لا يقال للابن ما قيل للأب في وطن التناقضات الازلية؟!