انطلاقا من شعورها باليأس من سوء إدارة الأنظمة الحاكمة لشؤون الاقتصاد والتعليم والسياسة في أغلب الدول العربية , وسوء الإدارة في التخطيط , وكذلك عدم القدرة على إيجاد الحلول اللازمة لأغلب المشاكل التي تتعلق بالشباب , وعلى رأسها حق العمل وحق السكن ,وصولا حتى إلى عدم قدرة تلك الأنظمة على توفير الحد الأدنى من توفير جميع المرافق الأساسية بالشكل المرغوب فيه , وغير ذلك من أولويات الحكومات في جميع دول العالم .
ولا شك في أن رفض تلك السياسات الفاشلة هو حق مشروع تماما , بل ضروري أيضا, وإذا كان الرفض هو أساس التغيير , فإن عملية التغيير نفسها تريد من هؤلاء الشباب الآن بذل الكثير من الجهد في التفكير والتخطيط والعمل معا من أجل تحريك عملية التنمية في بلدانهم, التي هي أساس وهدف الثورة الرئيسي , وإعطائها أولوية قصوى لطريق طويل , الذي يحتاج من الجميع إلى تضافر كل جهودهم لإعادة البناء الاقتصادي والعلمي والسياسي لمجتمعاتهم , وإرساء أسس دستورية جديدة تعيد النظر في طبيعة العلاقة بين الدولة والمواطنين , وتحديد الحقوق والواجبات بين الطرفين , بحيث لا تتعطل مرة أخرى طاقات التنمية والنهضة في جميع المسارات من سوء الإدارة وضعف المناهج التعليمية وغيرها من المسارات , وأيضا وسائل التخطيط لإدارة موارد الدولة البشرية والمادية معا .
فليس من شك في أن الشباب في جميع أرجاء الدول العربية مطالب اليوم بتطوير قدراته العلمية بشكل ينبغي أن توضع له الأولوية , وخصوصا أن الغالب منهم كان قد تلقى تعليما أفضل بالمقارنة مع الأجيال التي سبقته , كما أن معرفة هذا الجيل من الشباب بالتقنيات الإلكترونية الهائلة , التي فرضها عصر المعلومات علينا , وقدرته على التعامل مع الوسائط الافتراضية الحديثة , تزوده بالكثير من الفرص التي تمنحه ميزة إضافية لتطوير معارفه لما يدور حوله في العالم .
وهكذا , بقيت مسألة تطوير الذات قضية أساسية , وينبغي أن يأخذ كل شاب عهدا على نفسه بتحقيقها , وأن يسهم في تطوير قدرات هذا المجتمع في جميع المجالات , الصناعية منها والعلمية والزراعية والتكنولوجية, وغيرها , في زمن قياسي جدا .
إن ما يلفت انتباهنا في تأملنا مسار الأحداث العاصفة التي مرت بها منطقتنا العربية خلال العامين الماضيين , وتحديدا منذ قيام الانتفاضات والثورات الشعبية , هو أن الشباب تكتلوا بقوة وإصرار نادرين, واستطاعوا إسقاط أنظمة قوية , لم يكن أحد أن يتصور قبل أيام قليلة من سقوطها أنها يمكن أن تسقط , لكن الملاحظ هو ما حدث بعد ذلك , حين اعتقد شباب بعض الدول العربية أن دورهم قد انتهى , فتركوا كل ما أنجزوه لقوى أخرى لم يكن لها ذلك الدور الفاعل في صناعة الأحداث , أو على الأقل لم يقدموا جهدا معينا في عملية التغيير وإسقاط النظم , وانسحب الشباب تاركين الطريق لغيرهم .
وربما لم يدرك الشباب في أثناء حراكهم الشعبي تعبيرا عن رفضهم للنظم الدكتاتورية التي أسقطوها , أن هذا الرفض الشعبي هو مجرد البداية فقط , وأن طريق التغيير هو طريق طويل جدا ويحتاج إلى الكثير من التفكير والجهد وتنظيم الجهود لتحقيق جميع مطالبهم التي قامت من أجلها تلك الثورات والانتفاضات , فما سقط فقط هو رأس جبل الجليد , أما ما هو مخفي تحت الماء فهو الكيان الذي تقوم تلك الثورات لإزالته وإنهائه .
وهذا أمر يدعو إلى الدهشة في الحقيقة, لأن الملاحظة العامة في أغلب أرجاء المنطقة العربية الآن , كما رأيناه في خطابات شباب تلك الثورات في بداياتها , في كلّ من تونس واليمن وليبيا ومصر , وغيرها من البلدان الأخرى , هو تمتع الكثير من هؤلاء الشباب بخطاب علمي ومستقبلي , وهذا الخطاب كشف عما يتوافر من المعرفة والعلم والقدرة على الاتصال مع بقية أرجاء العالم , وتغيير صور بلادهم أمام دول العالم أجمع , وبالتالي ظهر بوضوح أن هذا الجيل مؤهل بالفعل لقيادة عملية التغيير هذه , وكان الأجدر به أو المتوقع منه هو أن يقوم بالحفاظ على المرحلة التالية للتغيير , وتحديد أولوياتها , وذلك بوصف هذا الجيل الشاب مسؤولا عن مستقبل بلاده , لكنهم لم يتحملوا الكثير من الصبر , وفقدوا بوصلة الطريق , تاركين المسؤولية لقوى كانت تتربص للانقضاض على السلطة و الاستيلاء عليها منذ زمن بعيد , وهذا أمر متوقع الحدوث , فالفراغ إذا وجد ،فهناك دائما قوة تملؤه .
إن القيمة التي أصر الشباب على إظهارها خلال التكتل من أجل التغيير تجسدت في تأكيد الرغبة في التحول من أنظمة فردية متسلطة تلتف حول شخص أو حزب أوحد, إلى أنظمة تؤمن بالشعب , وتحقيق العدالة والمساواة وإرساء دولة القانون والرفاهية
وقد نجح الشباب فعلا في تأكيد ذلك , لكن مع تغيير ملامح المشهد وبروز قوى منظمة تنتمي لتنظيمات فكرية وسياسية قديمة , أو لا تنتمي أصلا للأفكار التي حملتها حركات الشباب, وتمكن هذه القوى من الإمساك, ولو مؤقتا, بزمام الحركة والتفرد بها بسلب منجزات التغيير من الشباب , ولذلك فإن كل تلك القوى الشابة مطالبة بالتكيف مع الواقع الجديد لها , والتخطيط لمرحلة التغيير بشكل مختلف تماما.
لذا , لا بد من تحكيم قيم العلم والعقل معا في تلك الثورات والانتفاضات العربية , لأنها القيم التي حركت طاقة التغيير في بدايتها, بل , وهي القيم التي استطاعت بفضلها تلك الثورات الكبرى في العالم أن تحقق مطالبها وتصنع تغييرا حقيقيا لها في المجتمعات التي قامت فيها تلك الثورات .
وربما يرى البعض أن تراجع دور الشباب في المرحلة التي أعقبت سقوط تلك الأنظمة الفاسدة هو أمر طبيعي , في ضوء عدم توافر عنصر الخبرة السياسية عند الغالبية العظمى لدى هؤلاء الشباب , وهذا صحيح , ولكنه لا يمثل عائقا , إذا تضافرت جهود الشباب في تحقيق التغيير , لأنهم يمتلكون الوسائل العلمية , التي يمكنهم بها امتلاك ناصية القدرة على الفعل وتنظيم الجهد بناءً على أسس جديدة تماما , وليس بالشكل التي تقوم به القوى التي وصلت إلى السلطة , التي لا تملك القدرة على التغيير الذي تنشده ثورات الشباب وتصلهم بمستقبلهم .
وعلى مدى التاريخ , ثبت أن الشعارات الحماسية ذات الطبيعة العاطفية والدينية هي التي تتحرك بها تلك القوى , التي لا تفكر في مستقبل الوطن والشعب , بقدر ما يكون هدفها كله منصبا على تمكين نفسها من النفاذ إلى السلطة , والاستحواذ على ما كان تحت يد السلطة التي سقطت وأورثتها سياسيا وإداريا وماليا .
وهتا علينا أن نذكر , أن دور الشباب ليس فقط في التغيير , لكن الأهم هو الحفاظ على أوطانهم وحمايتها من القوى الخارجية قبل الداخلية , وعلينا أن ننتبه جدا إلى أن الغرب مهما شجع وقدم وأغرى فإنه لا يقوم بذلك من أجل سواد عيوننا أو رأفة بنا من الفقر والجوع والظلم , وإنما من أجل أثمان باهظة جدا علينا تسديدها , وإن الغرب قد استعمرنا وسيطر علينا عشرات , بل مئات السنين , ولم يعمل على انتشالنا من فقرنا ومرضنا وجوعنا وعبوديتنا , وعندما غادرنا مرغما لم يخلف وراءه شيئا من حضارته وعلمه وأنظمته الديمقراطية , بل تحكم في ثروتنا وباعنا منتجاته , ولكنه لم يعلمنا علمه , فلا جامعات أنشأ لنا , ولا طرقا تجارية بنى لنا , برية كانت أم سككاً حديدية .
ولذلك , فإننا حين نتأمل الثورات الوطنية التي تحققت في دول العالم , شرقها وغربها , سنجد إن الغالبية العظمى من تلك الثورات قد أعقبتها ثورات علمية وثقافية , وقد أسفر تحقيقها عن طفرات كبيرة وهائلة في الانتقال بتلك المجتمعات إلى النهضة الحضارية الشاملة في عقود قليلة من الزمن , والأمثلة كثيرة على كل ذلك , وخاصة أمريكا وإنكلترا وفرنسا , وفي الكثير من دول العالم المتقدم .
وبالتالي , على الشباب العربي أن يدرك جيدا أن الطريق إلى الحرية الكاملة وتحقيق مطالبه يقتضي الكثير من الجهد , وأن أصحاب المطالب هؤلاء هم الذين يجب أن يتبنوا مطالبهم إلى النهاية , وليست القوى صاحبة المشاريع السلطوية الأخرى .
لقد ثبت للجميع خلال العقود الماضية أنه لا أحد يمكنه أن ينقذ مجتمعاتنا العربية من براثن التخلف والفتنة إلا أنفسنا وسواعدنا, وليس الاعتماد على القوى الأجنبية , ومهما كانت قريبة أو بعيدة عنا , كما أن طريق إنقاذ مجتمعاتنا من التخلف قد بدأ بالفعل من خلال تلك الثورات والانتفاضات العربية التي حدثت , ولن يتمكن من استكمال هذا الطريق سوى جيل شاب مستعد للتغيير , وهو الذي يمتلك الإرادة والرغبة والمعرفة , جيل مسلح بمختلف وسائل العصر الحديث .
لقد صنع الشباب العربي ثوراتهم التي حققوا بها ما كان الجميع يظنه مستحيلا , وبالتالي فقد أدرك هذا الجيل أن فكرة المستحيل لم تعد واردة في قاموسهم أبدا , أو على الأقل هذا ما ينبغي أن يحافظوا عليه , وألا يستسلموا أو ييأسوا حين يرون أن تجربتهم الثورية لم تكتمل , أو أنها تعطلت أو انحرفت عن مسارها.
إن كل ما حدث حتى الآن هو بداية الطريق, والطريق طويل , ويتطلب من الشباب يقدموا التضحيات تلو التضحيات ليتوّجوا بها مسيرة نضالهم من أجل حياة حرة كريمة تعيشها شعوبهم .