( 1 )
يجب أن نقول قبلاً إن صورة العرب بوصفهم (الآخر) بالنسبة للغرب في أدبهم ربما سبقت صورة الغرب بوصفهم (الآخر) بالنسبة للعرب في أدبهم. يقول سيد الوكيل: "إن إسهام الأدب في تكوين صورة الشرق لدى الغربي ظاهرة معروفة رصدها إدوارد سعيد في الاستشراق، وبيّن كيف أن نصوصا أدبية شهيرة مثلت الشرق من وجه نظر الغرب، فيما يرصد (جميل شك) هذه الظاهرة على نحو مفصل في كتابه الاستشراق جنسياً، حيث يتم تصوير النساء الشرقيات بوصفهن منفلتات جنسياً، ومهيئات بحكم الطبيعة والثقافة لمضاجعات ممتعة وشاذة تزداد نشوتها باغتصابهن، وحيث تبدو صورة الاغتصاب تمثيلاً استعمارياً قابعاً في الليبيدو الغربي عن اغتصاب الشرق عسكرياً، ومن ثم يتم تحويل الجنسانية إلى ثابت تاريخي يمكن استخدامه لتمييز الشرق والغرب والشمال والجنوب والذات والآخر. ويرى (شك) أن النمط الأنثروبولوجي في الأدب الصريح جنسيا ويستعرض الكم الهائل للكتابة عن الممارسات الجنسية للشعوب، يظهر أن لهذا النمط جذوراً في الهجوم القروسطي على الإسلام". ولهذا تحتل هذه الصورة أو الصور في الدراسات التي تُعنى بموضوعة الآخر عموماً أهمية أولى. إن من الطبيعي أن تعبّر هذه الصورة، بدرجة أو بأخرى، عن رؤية الروائي نفسه، وفي النتيجة عن بعض رؤية العربي لتلك الشخصية الغربية. قد تكون هذه الرؤية جزءاً من موقف عام للكاتب أو صورة منـه، وبالطبع "لا سبيل إلى اتخاذ موقف إلاّ بمشروع يقوم به الفرد مرتبطاً بما يحيط به من عوامل، يتجاوزها بمشروعه إلى غاية له يحاول بها التعبير عن حالته الحاضرة".
( 2 )
ومن هنا يكون مهماً، أو على الأقل مفيداً إلقاء النظر أولاً على العوامل التي أثّرت أو تؤثّر في نظرة العربي أو العرب، وبضمنهم الروائيون بالطبع، إلى الغرب والشخصية الغربية. لكن هذا الأمر الذي يقودنا إلى المرور سريعاً بسبل الاتصال بالغرب التي كثيراً ما كانت هي ضمن تلك العوامل، أو أفرزت بعضها، خصوصاً أن العديد من الروايات التي قدمت لنا شخصيات غربية قد انطوت على بعض تلك السبل والعوامل صراحةً أو ضمناً، بل أثّرت في رسم الروائيين لشخصياتهم الغربية، كما سنأتي إلى ذلك. ولعل تعليل ذلك يكمن في أن جل الروايات التي كتبت عن لقاء الشرق والغرب أو العرب والغرب، مثل تلك التي قدمت أبطالها أو بعض شخصياتها عرباً في تجارب لهم في الغرب أو مع أشخاص غربيين، إنما كتبت تمثُّلاً أو استحياءً لتجارب حقيقية لهؤلاء الروائيين في الغالب، خروجاً عن القاعدة الأصلية التي كانت وراء تصور العربي للغربي كتابةً مع محدودية الاحتكاك الفعلي بالغربي، في المراحل الأولى من لقاء الشرق والغرب، كما شرحنا سابقاً. وانطلاق هذه الكتابات من تجارب شخصية فعلية تؤكدها سِيَر الكتاب التي عرفناها، مثل سِيَر توفيق الحكيم وسهيل إدريس وعيسى الناعوري وبتول الخضيري؛ أو أخبرنا بها بعضهم، كجبرا إبراهيم جبرا وعدنان رؤوف وميسلون هادي؛ أو كما يمكن لنا أن نستشفه من كتابات الكُتّاب، كما هو الحال مع الطيب صالح ومحمد أزوقة وعبد الرحمن منيف وسحر خليفة وناجي التكريتي ورضوى عاشور. عدا ذلك، وهو بظننا قليل، إنما يأتي نتيجة عوامل ومؤثرات أخرى غير التجربة الشخصية، كما هو حال يوسف إدريس ومهدي عيسى الصقر وعلي خيون. ولعله من هنا كان جل أبطال هذه الروايات، ومؤلفيها بشكل أو بآخر وراءها، شخصيات مثقفة. يقول أحد الدارسين في دراسة له عن الرواية الأردنية: "إن معظم روايات هذا الاتجاه نبعت من تجربة شخصية للروائي في العالم المتحضر... إن روايات هذه الفترة/الاتجاه تأثرت بهذه التجربة الشخصية". ويقول دارس آخر: إن الكتّاب "كتبوا رواياتهم ليس من خلال ما قرؤوه عن واقع ما، وليس من خلال ما سمعوه عن واقع ما، وليس من خلال ما قيل لهم عن واقع ما، وليس من خلال ما كتبه المؤرخون عن واقع ما، ولكنهم كتبوا رواياتهم من خلال تجارب ربما عاشوها هم بأنفسهم، وعانوا من مشكلاتها وقضاياهم" على أرض واقع ما. واستدراكاً نقول: إن هذا إذ ينطبق على عدد كبير من الروايات، فإنه لا يعني انطباقه عليها بشكل مطلق، بل هناك ما انطلق كتّابها في كتابتها من خلال ما نفاه ضمناً أو صراحةً بعض الباحثين والروائيين. ومهما كانت انطلاقة هذه الروايات، فإنها لم تكن لتُكتب غالباً لو لم يكن الاتصال بالغرب متحققاً أصلاً، ولو لم يكن الكاتب جزءاً من هذا الاتصال، أو يعيه أو يطلع عليه أو يقرأ عنه لينعكس ذلك، واضحاً غالباً، في كتابته دون أن نستثني أن تكون هناك روايات قليلة كتبت في معالجاتها للغرب والغربيين انطلاقاً من معرفة له ولهم عبر وسائل أو سبل أخرى غير التجربة الذاتية والمعايشة والمعرفة القريبة القائمة على التماس بالغرب والغربيين.
( 3 )
أما هذه السبل، التي عادة ما تكون مجموعةً أو بعضاً وراء كتابة الروايات، التي تتعامل مع الآخر، فهي:
السبيل الأول: الاحتلال وأشكال الاستعمار التي تمثّلت بدايةً بحملة نابليون، وببدلاء الدولة العثمانية بعد سقوطها، من الإنجليز والفرنسيين وغيرهم، وأشكال التبعيات السياسية والاقتصادية التي فَرضت على العرب أن يجدوا الغربي يعيش بين ظهرانيهم، بل يفرض نفسه عليهم أحياناً. ولعل هذا ما يبدو واضحاً قد انطلقت منه روايات "مكابدات عبد الله العاشق" لعبد الخالق الركابي في تقديمها لشخصية ضابط إنجليزي، و"أمس كان غداً" لكاظم الأحمدي" في تقديمها لشخصية مسؤول إنكليزي، و"تشرق غرباً" لليلى الأطرش في تقديمها لشخصية سائحة أمريكية، و"الحدود البرية" لميسلون هادي في تعاملها مع الاحتلال الأمريكي للعراق.
السبيل الثاني: وهو العلاقات المختلفة بين العرب والغرب، من تجارية ودبلوماسية وثقافية، وهو متعلق بالأول أحياناً ومستقل بذاته أحياناً أخرى، إذ هي فرضت الاتصال بينهما وقادت إلى أن يحل الغربي وسط العرب، والعربي وسط الغربيين، بدرجات مختلفة بالطبع ووفقاً للمراحل الزمنية وللأقطار العربية المختلفة. وهذا ما قد يبدو أنه كان وراء تجارب روائيين مثل محمد أزوقة في رواية "الثلج الأسود"، وسميرة المانع في روايتي "السابقون واللاحقون" و"الثنائية اللندنية".
السبيل الثالث: البعثات الدراسية والعلمية ،وصاحَبَ هذا السبيل السبيلين السابقين في كثير من الأحيان، ولا سيما في مراحل الاتصال الأولى بالغرب، وتواصل بعد ذلك بأشكال ودرجات مختلفة، ونعني به التي حفزت بعض من تمتعوا بها وخبروا من خلالها العيش في الغرب على الكتابة عنها روائياً. في الواقع أن مثل هذه التجربة قد حفزت، في كثير من الأحيان، مَن لم يكن ولن يُصبح أديباً، على الكتابة عنها قصةً أو رواية، لتكون تلك تجربته الإبداعية الوحيدة. لكن هناك بالطبع أعمالاً عديدة انطلقت من هذه التجارب لروئيين فعلاً. ولعل من أشهر من يُذكر منهم توفيق الحكيم في "عصفور من الشرق"، وسهيل إدريس في "الحي اللاتيني"، والطيب صالح في "موسم الهجرة إلى الشمال"، وعدنان رؤوف في "يوميات علي سعيد"، ورضوى عاشور في "الرحلة.. أيام طالبة مصرية في أمريكا"، وناجي التكريتي في "نورا"، وغيرها كثير.
السبيل الرابع: هو الهجرة، ونقصد بها بالطبع هجرة العرب إلى الغرب. فعلى خلاف أدب المهجر العربي المعروف في الأمريكيتين الذي تمثّل بغالبيته العظمى في الشعر، كما نعلم، توزعت تجارب المهاجرين والمنفيين وعموم الأدباء العرب المقيمين في الغرب المتأخرين، خلال العقود الأربعة أو الخمسة الأخيرة، على أشكال الإبداع الأدبي المختلفة، فكان الشعر والرواية والقصة والمسرح. وتعلقاً بموضوعنا لعل أبرز ما يمكن أن نذكر هنا من تجار الغربة الروائية روايات غائب طعمه فرمان "المرتجى والمؤجل"، وسحر خليفة "الميراث"، وسميرة المانع "السابقون واللاحقون" و"الثنائية اللندنية"، ومحمود البياتي "رقص على الماء".
السبيل الخامس: هو السياحة والسفر، ولعله أقل السبيل دوراً، لا سيما في تقديم روايات متميزة أو ناضجة. فمع وجود كتابات روائية أفرزها سبيل الاتصال هذا، فإن غالبية التجارب الأدبية التي أفرزها كانت في الواقع في الشعر والقصة القصيرة، وبالطبع أدب الرحلات، وذلك لقدرة هذين الفنّين على تمثّل التجارب السريعة وأحياناً العابرة، لتعميقها أو لتقديمها سريعة وربما سطحية. من هنا نستطيع أن نفهم لِمَ كانت أمكنة غالبية الكتابات التي استفادت من هذا السبيل بلداناً غربية سياحية للعرب مثل أوروبا الشرقية والنمسا وسويسرا وإيطاليا وفرنسا، كما تَمثَّل ذلك في كتابات عبد السلام العجيلي وعبد الرحمن مجيد الربيعي وفؤاد التكرلي وربما عيسى الناعوري وغيرهم.
هذه هي السبل المهمة التي كانت وراء تحقُّق اتصال الشرق أو العرب بالغرب، ومن خلالها كانت تجارب الكتاب، روائيين وغير روائيين بالطبع، مع الغرب والغربيين، وما قادت إليه من تجارب كتابية كُتبت عنها أو استوحتها. لكن يجب الانتباه إلى أن هؤلاء الكتاب لم يكتبوا ما كتبوه دائماً انطلاقاً من تجارب خبروها عبر هذه السبل أو بعضها أو من وحيها خالصةً، بل كان لعوامل عديدة تأثيراتها في تناولهم لموضوعة اللقاء بين الشرق والغرب ولرسم صور الشخصية الغربية بالأشكال التي رُسِمت بها بمعزل عن مدى مطابقتها أو عدم مطابقتها للواقع، وفي سبل الاتصال التي مرت جميعاً ما يوضح هذا ولكن إلى جانب هذه العوامل التي نشير إليها وسنأتي إليها بعد قليل. إن أهمية هذه العوامل تكمن في أنها بدرجة أو بأخرى مما يتعرض له الفرد العربي العادي وبما يعني أن نفهم، بدرجة ما ومن خلال تناول الأعمال الروائية المعنية، خصوصاً إذا أردنا أن نربط الفن بالحياة والواقع، لماذا ينظر العربي إلى الغرب والغربيين بهذا الشكل أو ذاك؟ وهذا ما سنتناوله في مقال تال.
* أستاذ النقد والأدب المقارن والحديث
كلية الآداب – جامعة بغداد