منذ سنوات انقرضت "المكّاوية " ولا أحد يعرفها من الجيل الحالي ، واستذكارها اليوم محاولة لاسترجاع حلاوة سنوات زمن مضى لم تكن ميزانيته وقتذاك بمليارات الدولارات وإنما بضعة ملايين ، خصصت النسبة الأكبر منها للإعمار ، وإنشاء المدارس والمستشفيات ، وإقامة الجسور وربط "الألوية "أي المحافظات بشبكة من الطرق مازال بعضها على الحال السابق "سايد واحد إلى كركوك " استحق وصف طريق الموت ، حتى كاد ينافس بالقدم شارع الموكب في آثار بابل.
في زمن" المكاوية " كانت العسلية ، وهي بحجم جعب استكان من الشيرة تصب على صينية الطحين تحلّي أيام أطفال العراق ، للكبار والصغار معا ، سكر القند والحلقوم ، ومنّ السما والسمسمية وأصابع العروس يتناولونها في المناسبات والأعياد ، فتجعل أيامهم أحلى ، وخصوصا في فصل الشتاء عندما يجلس أفراد الأسرة حول صوبة علاء الدين ، والأنظار تتطلع إلى التلفزيون أبو العين السحرية يعرض فيلم الوسادة الخالية بالأسود والأبيض .
المكّاوية ياسادة ياكرام مادتها الأساسية ما تبقى من الصمون والخبز ، ومنهما تصنع عجينة تكون عادة سمراء اللون على شكل دائري ، وبعد إخراجها من الفرن الحجري تغطى بالدبس ، وينشر عليها لب جوز الهند الملون ، يحملها البائع ليطوف مع زملائه أبو البقصم، و بيض اللكلك والعلوجة والعسلية ، وباعة الفرارات في أزقة الأحياء البغدادية ، للحصول على يوميات الجهال قبل وصولهم إلى دكان العطار الكائن في راس الدربونة .
في زمن انقراض "المكاوية " وبعد اعتماد خطط خمسية وأخرى انفجارية لتحقيق التنمية في بلد يقال عنه انه يمتلك أكثر احتياطي نفطي في العالم ، أكدت تقارير دولية أن هناك ملايين العراقيين يعيشون تحت خط الفقر ، وموازنة العام المقبل لم تتضمن تخصيصات مالية لمعالجة الظاهرة ، وتركت مشكلة البطالة من دون حلول ، وفي السنة الواحدة تلتحق أعداد كبيرة من خريجي الجامعات بفيالق العاطلين ، وليس أمامهم من فرص عمل سوى في المساطر ، المهددة هي الأخرى بحوادث انفجار سيارات ملغمة وعبوات ناسفة .
في تقاطعات الطرق والساحات العامة في العاصمة بغداد ينتشر الباعة من مختلف الأعمار ، وعملهم يقترب من التسول ، وصور هؤلاء ، تناولتها وكالات أنباء عالمية ، ونشرت بصحف عربية مع تعليق "شعب أضخم موازنة في المنطقة " في زمن انقراض "المكاوية " والتعليق ينطوي على إشارة صريحة لا تحتاج إلى تفسير ، ولكنها بنظر العراقيين قد تكون حافزا لأصحاب" الغيرة وأهل الرحم " على تحسين الأداء الحكومي والسياسي ، وتجاوز الأزمات ، وتحقيق هذه الأمنية من المستحيلات ، ومن المؤكد أن معجزة تسوية الخلافات بين الأطراف المشاركة في الحكومة ستمهد الطريق لاعتماد خطط خمسية وانفجارية ، وبجهود النشامى من المسؤولين والسياسيين سيتم دحض تعليق الصحف العربية حول انتشار الفقر في العراق البلد النفطي ، ولكن المصيبة أن النشامى وأكثرهم عاصر زمن "المكاوية " يتمسك بمواقفه ، ويتهم الآخرين بإعادة البلاد إلى العصور الحجرية .
زمن "المكّاوية "
نشر في: 3 ديسمبر, 2012: 08:00 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي

ماذا وراء الدعوة للشعوب الأوربية بالتأهب للحرب ؟!
د.كاظم المقدادي الحرب فعل عنفي بشري مُدان مهما كانت دوافعها، لأنها تجسد بالدرجة الأولى الخراب، والدمار،والقتل، والأعاقات البدنية، والترمل، والتيتم،والنزوح، وغيرها من الماَسي والفواجع. وتشمل الإدانة البادئ بالحرب والساعي لأدامة أمدها. وهذا ينطبق تماماً...









