علي نافع حموديمن بين المعضلات الفكرية الكبيرة التي ما زالت تواجه المجتمعات الشرقية هي مسألة التأريخ وتدوينه ومعالجته بالشكل الذي يحافظ عليه كتراث، بعيداً عن عملية الحذف والشطب والإضافة ومحاولة تجنيده لأغراض مرحلية تنتهي بانتهاء المرحلة ذاتها .
ومنذ بضع سنوات تداول الجميع مسألة إعادة قراءة التاريخ أو محاولة كتابته وفق أحداثه، دون أن يفكروا جميعا بقضية مهمة جدا تتمثل بأن مناهج التاريخ التي تدرس في مدارسنا بعيدة جدا عما يمكن تسميته بتاريخ العراق ، ولعل هذا الشيء يستغربه الجميع حين يجدون مناهجنا المدرسية تبتعد كثيرا عن تدريس تاريخ بلادنا ، خاصة إن أهم أسباب دراسة التاريخ تتمثل في تقوية اعتزاز المواطن بوطنه ، ومحاولة بناء التواصل الفكري مع الأجيال بما يؤمن استمرارية حركة التاريخ وفق سياقاتها المعهودة دون قطع أو تشويش .فتاريخ العراق الذي نلقنه لتلامذة وطلبة مدارسنا في مراحلها كافة هو تاريخ مقطوع مشوش ممزوج ما بين تاريخين الأول: إسلامي والثاني: قومي ، فكتاب التاريخ في المرحلة الابتدائية كما يعرف الجميع هو تاريخ الدولة الإسلامية في الصف الخامس، وتاريخ الوطن العربي للصف السادس ، وينتقل هذا التاريخ لمرحلة المتوسطة بتوسع أكبر ، والذي يطالع ذلك سيجد بأن حصة تاريخ العراق لا تتعدى أسطراً قليلة جدا ، تربك ذهنية المتلقي ولا تشكل له حالة وحاجة مهمة من الممكن أن يرتقي منها لمعرفة الكثير عن تاريخ بلاده ، فليس من المعقول أن يدرس ويتعلم الطالب العراقي تاريخ وحضارة دول أخرى حتى وإن كانت عربية ولا يدرك شيئا عن تاريخ بلاده وقومياته ودورها الاجتماعي والسياسي في العراق منذ عصور قديمة .وعلى الرغم من حملة التطوير التي سادت الكثير من المناهج الدراسية في العراق، إلا إننا نجد بأن مادة التاريخ كانت بعيدة كل البعد عن هذا ، واكتفوا بحذف كل ما يشير إلى حقبة النظام السابق دون أن يفكروا بإدخال حلقات مفقودة غابت عن مناهجنا المدرسية عقوداً طويلة، وفي المقدمة منها ما يتعلق بالتاريخ المعاصر وأحداثه ، ناهيك عما كان سائدا من تغييب شامل وتام لدور القوميات الأخرى في بناء الدولة العراقية ما بعد الحرب العالمية الأولى وما شهدته من أحداث ساهمت بشكل أو بآخر في بروز شكل الدولة .لهذا نجد بأن محاولة إيجاد قراءات جديدة لتاريخ العراق يجب أن تبدأ من المدرسة الابتدائية، وأن يتم التعامل مع التاريخ كعلم ناقل للحوادث وليس مجرد كتاب تتعدد طبعاته ولا تتغير أحداثه ، فأحداث اليوم تصبح في الغد تاريخاً ندرسه ونستخلص منه الدروس والعبر من أجل تلافي الأخطاء التي قد تحصل وتجاوزها بالشكل الذي يجعل من دراسة التاريخ عملية صحيحة وسلمية ووفق سياقها البحثي والعلمي .وبالتالي فإن من يكتب أو يحاول إعادة كتابة وقراءة التاريخ ، خاصة تاريخ ما بين النهرين أن يضع نصب عينية بأن العراق بلد متعدد القوميات ومتعدد الديانات إلا إن الجميع يلتقي في ولائه لهذا البلد، كلاً من زاويته ونظرته وفكره ، قد تتقاطع الرؤى ما بين هذا وذاك في قضية معينة ، ومهمة المؤرخ هنا تكمن بنقل هذه الرؤية والتوجهات لا حذفها أو محاولة الجزم بعدم جداوها تحت ضغوطات قومية أو دينية أو سياسية كما كان سائدا في الحقب الماضية.فالتاريخ هو عملية حراك اجتماعي يفضي إلى تكوين صورة لمشهد المرحلة التي نعيشها والتي عاشها غيرنا، وبالتالي علينا أن لا نهمش أو نقصي أي رأي مهما كان من أجل اكتمال الصورة التاريخية بالشكل الصحيح .فتاريخ أي بلد لا يمكن أن تكتبه قومية واحدة أو ديانة واحدة أو شخص واحد ، ولا يمكن أن تكون حركة التاريخ صحيحة إلا من خلال قراءة واضحة لجميع مكونات الشعب بغية النقل الصحيح، بعيداً عن التشوية والانتقاص من الآخرين ومحاولة تصدر التاريخ على حسابهم .
الصورة التاريخية
نشر في: 21 نوفمبر, 2010: 04:52 م