أعتقد أن أغلب من يهتم بالقراءة تسحره محال بيع الكتب المستعملة. وشخصيا، عندما أزور بلدا وأسمع أن فيها سوقا لبيع تلك الكتب أقصده قبل أن أفكر بزيارة مواقعه الأثرية أو الطبيعية. أول ما يجذبني في الكتب العتيقة ليس عنوانيها أو مضامينها، بل رائحتها التي كنا نسميها "تبنية". وأظن أن الاسم مأخوذ من رائحة التبن الذي يقال إن أوراق الكتب القديمة المائلة للصفرة كانت تصنع منه. رائحة حين أشمها تذكرني بمكتبة بيع الكتب العتيقة ذات الطوابق المتعددة التي تقع في شارع الرشيد. أتذكر تلك الساعات الطوال التي كنا نقيضها في (البحوشة) بين رفوفها، وكيف كنا نخرج منها فرحين بالعثور على كتاب وكأننا عثرنا على كنز ثمين. للأسف، لا أتذكر اسمها اليوم.
قبل أيام دفعني الحنين، قبل الحاجة لشراء الكتب، للسفر إلى مدينة بريطانية مختصة في بيع الكتب المستعملة secondhand. كنت قد زرتها، ضمن رحلة أقامتها لنا الجامعة، في أيام دراستي للدكتوراه،. ومن أول نظرة أحببتها وأدمنت السفر إليها. إنها مدينة "هاي اون وي" Hay-on-Wye التي تقع على الحدود بين مقاطعتي ويلز وانجلترا البريطانيتين.
شوارع طويلة عامرة بالمكتبات الضخمة. فيها المتخصصة وفيها العامة. أصحابها والعاملون فيها متخصصون ولا تحتاج غير أن تخبرهم عن اسم المؤلف أو عنوان الكتاب أو حتى الموضوع الذي أنت مهتم به، ليلبوا حاجتك. الكتب زهيدة الثمن. بعضها يباع بالمفرد وبعض بالوزن. اختر مجموعة الكتب ووزنها وسيحسب لك البائع سعرها بسعر الكيلو! طبعا هذه لا تشمل الكتب النادرة جدا ولا المجلَّدة.
وصلت المدينة فوجدتها مزدحمة بهواة شراء الكتب يجوبون المكتبات ضمن مجاميع سياحية جاءوها من مختلف بلدان العالم. إنها سياحة من أجل القراءة. "هم زيارة وهم تسيارة". وبعد ثلاث ساعات أو أكثر من تنقلي بين المكتبات أسأل أصحابها إن كانت لديهم كتب عن العراق، أجابني احدهم: نعم. نزل إلى السرداب وعاد لي بكتابين مجلدين احدهما في جزأين عنوانه Spoken Arabic of Baghdad "العربية المحكية في بغداد". يا لها من مفاجأة. كتاب بالانكليزية وعن اللهجة البغدادية ؟!
توقعت أن الرجل سيضرب بالعالي لأني لم أستطع إخفاء فرحتي أمامه، مثلما يفعل أصحاب المكتبات معي في سوق الأزبكية للكتب القديمة بالقاهرة لو وجدت عند احدهم كتابا يخص العراق. لم يطلب "الويلشي" مني سوى اقل من 50 دولارا للمجلدات الثلاثة. تناولت الكتب وركضت بها نحو اقرب مقهى لأتصفحها، كما الطفل الذي حمل شهادة نجاحه ليطير بها صوب أمه ليبشرها.
في الكتاب، الذي عن لهجة بغداد، جهد لم يشعرني بمتعة عارمة، حسب، بل وملأني برغبة صادقة في أن أقبّل تلك الأصابع التي سطرت كلماته قبل 50 عاما. كم هي رائعة لهجة بغداد، يا أصحاب. وكم أنا مستمتع بهذا الكتاب "اللكطة" الذي أزاح شيئا من الحزن. حزن كان قد دب بقلبي يوم أخبرني صديق عزيز عليّ بان اللهجة البغدادية، في هذه الأيام، قد اختفت من شوارع بغداد وما عاد لها مكان إلا في الأعظمية.
سأعود لكم لأحدثكم عن الكتاب قليلا في أمل أن تشاركوني فرحتي. ومن لذيذ الفرح أن نشتركا.
جميع التعليقات 2
فاروق الشمري
العزيزهاشم العقابي....شكرا لمقالك هذا... ياسيدي اود ان اخبرك ان اللهجة البغداديه قد ضاعت في مدينة بغداد فعند تجوالك فيها نادرا ما تسمع تلك اللهجه التي يتحدث عنها كتابك لقد ضاعت اللهجة البغداديه بين ملايين النازحين لبغداد من كل انحاء العراق بحثا عن العمل
raed albustany
انت اتظل تحرك بكلوبنه