ستار كاووش
إحتضنت بغداد في الفترات الماضية كثيراً من التجارب التشكيلية المهمة، وهاهي قاعة ذي غاليري وضمن عروضها المتميزة تَتَهيأ هذه الأيام لإقامة معرض مهم للفنان التشكيلي سعد تويج بعد غيابه عن بغداد ثلاثين سنة، حيث سيعرض لوحاته التى أنجزها بعيداً عن الوطن.
يعود هذا الفنان الذي عرفته منذ أربعين سنة وإطلعتُ عن قرب على تجاربه الفنية، هو الذي درس فن الغرافيك في معهد الفنون الجميلة وأكمل دراسته في أكاديمية الفنون في بغداد، التي كانت ومازالت حاضنة مهمة ومضيئة لأجيال عظيمة من مبدعي العراق. جاء سعد تويج مع أعماله يصحبه الكثير من الحنين للأماكن التي عاش وسطها وخبرها وإنتمى اليها ورسمها في لوحاته التي يمكننا أن نطلق عليها التجريدية الغنائية، حيث تتحول البيوت الى بقع من الضوء، وتصير المنائر حروفاً وكلمات، وتغدو النوافذ قصائد عشاق تتراقص في فضاء اللوحات، وتتداخل مفردات الرسم كإنها أغانٍ تنمو وسط حقول من الزخارف. حين نتأمل لوحات معرضه الجديد الذي أسماه (السرد، رحلة بقاء) نرى كيف تنساب الخطوط بنعومة مثل نهر وتنهمر لمسات الفرشاة مثل مقطوعات موسيقية تبهرنا بإيقاعها ورهافتها وقوة تأثيرها. أمام هذه الأعمال لا نقوى على الفكاك من كمائن الجمال وفتنة الخط وتناغمات الفضاء الذي تتناثر فيه الكتل والحجوم والأشكال التي إستقاها من أرض الرافدين. ننظر الى لوحات سعد تويج المبهرة، فنمضي متتبعين خطوطه التي لا تحدها حدود ولا يقف امامها انسيابيتها عائق. أما ألوانه فهي كرنفال تتداخل فيه التكوينات والأشكال، وهي تشبه إحتفالية ملونة تأخذنا الى عوالمه الفسيحة والمبهجة وتصوراته الجمالية التي شَيَّدَ من خلالها لغته التشكيلية وعالمه المتفرد.
الجمال يقول كلمته هنا دون حذلقات ولا اجترار لحداثة مفتعلة، هكذا يدخل سعد تويج مباشرة في صلب الجمال ويمنح الخط روحاً ويعطي للنغمات اللونية انسجاماً ويهدينا في النهاية أعمالاً تعرف طريقها نحونا كمتلقين، وتُكملَ طريقها في النهاية نحو تاريخ الفن العراقي. فيالها من فتنة وياله من عالمٍ يبدو قريباً، لكنه من فرط سحره وغموضه يبدو قصياً وبعيد المنال. الخبرة في أعمال سعد تويج تقول ما فيه الكفاية، والدربة في تكويناته المبتكرة تعني الكثير، فلا شيء يأتي عفو الخاطر، بل من خلال الإنغماس بالرسم والإجتهاد والمثابرة. يُضاف الى ذلك إن قيمة الاعمال الفنية وأهميتها تنبع من كونها فريدة وشخصية ولا تجتر تجارب الآخرين، وهذا ينطبق على تجربة سعد تويج، حيث تتراقص فرشاته بطريقة العارف الموهوب، وهو ينثر مفرداته الجميلة على سطوح اللوحات، حيث تتداخل الأهلّة والطيور والقباب والبيوت، وكإنها تهبط من مكان سري وبعيد، لتسحب المشاهد معها وتأخذه الى عوالم سعد تويج السرية، كل ذلك رسمه هذا الفنان الموهوب بألوان قزحية مثل الأعياد، وصاغ تكويناته برؤيته الشخصية ولمسته البارعة التي لا تخطؤها العين، لتكون النتيجة أعمالاً مذهلة بإقاعها والمتعة التي تتركها في روح المشاهد.
كل من يشاهد أعمال سعد تويج يستعيد معها شرقية هذا الفنان الذي يُفصح من خلال لغته التشكيلية عن المكان الذي جاء منه، حيث بغداد بقبابها وتاريخها ولياليها التي تجاوزت الألف. الشرق هنا هو الجدار الذي يتكيء عليه سعد ويستعرض عليه لوحاته التي تقول كلمتها وتمضي نحو المتلقين محملة بالغواية والغموض الآسر. هذه الأعمال هي مثال لما يكون عليه الرسم الذي جمع الخط واللون والتكوينات الجميلة في بناء متماسك ونسيج من المفردات التي تتداخل وتتباعد، تقترب من بعضها لتكوين المشهد، ثم تفترق لتمنح عين المشاهد فسحة من التأمل والإسترخاء والمتعة. هكذا يفتح سعد نوافذه بطريقته الخاصة، لنطل من خلالها على الفردوس الذي بناه بلمسات فرشاته التي حولت سطوح الرسم الى سيمفونية من الخيال وحقل من الترف اللوني، وقصيدة كتبها بألوانه وخطوطه.
لم يكتفِ سعد تويج بأعماله الملونة التي تشع فرحاً وتناغماً، بل أنجزَ بموازاتها تجاربه الكرافيكية التي تتداخل فيها الوجوه والملامح وهيئات كائنات غريبة، العيون خائفة ومترقبة، والأفواه مفتوحة كإنها توشك على إطلاق صرخات عالية، فيما الأيدي تتدلى في فضاء اللوحة. ومن موضوعاته هنا، صراع الانسان مع الثور الذي يرمز الى القوة، كذلك الهيئة المبهمة لبقايا رجل، تقابله مجموعة من سيقان النساء التي تتدلى الى الأسفل، في مشهد يحمل الكثير من الغرابة.
يعرض سعد تويج أكثر من ثلاثين عمل في معرضه الجديد، ويترك أمام المتلقين إجاباته ومقترحاته التشكيلية التي تقول إن الابداع في الرسم ينبع من روح الفنان وانغماسه في عمله ومحاولاته التى لا تتوقف في إنجاز كل ما يمتع العين ويطرب القلب ويحرك المشاعر.