لطفية الدليمي
أعترفُ بأنّ لديّ كثرةً من الكتب الورقية والالكترونية التي تنتظرُ دورها في القراءة، ويحزنني كثيراً أنني لم أقرأها حتى اليوم. لا مردّ من قبول الحقيقة المُرّة: نحن لن نستطيع قراءة كل ما نهوى قراءته. كلّما عاينتُ قائمة هذه الكتب أمتعضُ كثيراً؛ لكنّ بعض المناورة ممكنة. إحدى المناورات هي قراءة بعض الكتب صغيرة الحجم عوضاً عن قراءة كتاب واحد بدين. يبدو حاجزُ المائتي صفحة حدّاً إفتراضياً معقولاً لفرز الكتب البدينة عن النحيفة.
قرأتُ في اليومين الماضيين كتاب السيرة الذاتية للفيلسوف الانكليزي جون ستيوارت مِلْ. هذا الفيلسوف معترفٌ له بأنّه أحدُ أكابر مفكّري القرن التاسع عشر لأسباب عديدة؛ فهو الذي شيّد الاسس الفلسفية والاخلاقية للنظام الليبرالي، وكان معروفاً بأخلاقياته الصارمة التي تُعلي شأن المناقب الاخلاقية العليا. إلى جانب هذا فهو أحدُ الذين تعلّموا تعلّماً ذاتياً على يد والده الذي كانت له هو الآخر مناقبيات مأثورة في المجتمع الانكليزي. تعلّم مِلْ اليونانية وهو ابنُ الثالثة، واللاتينية وهو في الثامنة، ولو طالعنا قائمة مقروءاته خلال العشر سنوات الاولى من حياته لهالتْنا عناوينُها المعقدة. التعلّم عند طفل مثل مِلْ ليس وظيفة مدرسية بقدر ما هو شغف عقلي مستحكم يدفعُ المرء للإتيان بأفاعيل تبدو مستحيلة لدى آخرين. يحتاجُ الامر بالضرورة وجود أب يتحسّسُ إمكانية طفله على الايفاء بمتطلبات هذا التعلم الشاق غير التقليدي، ثمّ بعد تجاوز سنّ محدّد يصبح الامر نوعاً من الفعالية اليومية العادية لدى المرء. لم يكن ملْ وحيداً في قدراته الفريدة في التعلّم الذاتي؛ إذ أنّ كلّ المثابات الفلسفية والعلمية منذ عصر التنوير حتى يومنا هذا أبدوا مثل هذا الميل إلى التعلّم الذاتي الجارف الذي يختصرُ الجهد والزمن والسياقات التقليدية ويدفع المرء ليضع بصمته الخاصة فيما يتعلّم ويسلك عبر دروب المعرفة اللانهائية.
لا تأتي الميّزات المتفوّقة من غير ثمن فادح؛ بل وقاتل أحياناً. يحكي لنا تاريخ علم نفس الافراد المتفوقين أنّ الاطفال الذين ينكبّون إنكباباً صارماً على التعلّم الذاتي يعانون بعد مغادرتهم طور الطفولة وولوجهم طور الشباب اليافع نوعاً من الاكتئاب القاسي الذي يمكن وصفه بالاكتئاب المعرفي. يشعرون بتوق ممض إلى براءتهم الطفولية التي رحلت ولم يشبعوها لعباً ولهواً، وقد تتعقّد الامور حدّ أنهم يكرهون الشخص الذي تابع دراستهم الذاتية. يصبح الهرم المعرفي الذي بنوه وتعبوا في تشييده ثقلاً يجثمُ على صدورهم. في الغالب تخفّ هذه الحالة مع الزمن وبعد أن يصبح المرء أكثر قدرة على عقلنة الامور ووضعها في مواضعها المناسبة من غير تضخيمات درامية.
سيكون من المناسب أن نتساءل: مَنْ تلك المرأة التي سترضى الزواج بشخص نشأ منذ طفولته بين أكوام الكتب وقراءات لا تنتهي في حقول معرفية متعددة حتى لو كان عبقرياً؟ العبقرية ليست بديلاً عن العاطفة والحب والمشاعر الرقيقة التي تتوق لها كلّ إمرأة.
تصوّرُ لنا عقولنا أنّ الحياة مع هذا النوع من الشخوص (سمّهم عباقرة) هي حياة جحيمية. الواقع يقول لنا عكس هذا. معظم العباقرة الذين قرأنا عنهم كانوا أزواجاً مثاليين محبين لزوجاتهم، وبقدر ما يختصُّ الامر بفيلسوف الليبرالية مِلْ فيكفي أن نعرف بأنّه كتب فصلاً كاملاً -بين الفصول السبعة لسيرته الذاتية المختصرة- أسماه (أثمنُ صداقة في حياتي) حكى فيه عن المزايا الرفيعة لزوجته حيث جعل شيللي الشاعر يظهر صبياً صغيراً أمامها. أعتقدُ أنّ الصرامة الاخلاقية والفضائل العليا ومقت النزوع إلى المخاتلة واللعب العاطفي لدى هؤلاء العباقرة هي التي تجعل زوجاتهم يريْن فيهم شخوصاً تستحقُّ كل التقدير والاحترام و..... الحب كذلك.
لن أكتب أكثر بشأن السيرة الذاتية لمِلْ عملاً بمبدأ أن لا تتجاوز المقالة الاسبوعية حاجز الخمسمائة كلمة إلا بقليل أحياناً. كل ما أتمنّاه أن تجد السيرة الذاتية للفيلسوف -إلى جانب مؤلفاته المترجمة الاخرى- أوسع نطاقات المقروئية والتداول في الفضاء الثقافي العام.