اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > الحكّاء بين الغموض والوضوح

الحكّاء بين الغموض والوضوح

نشر في: 25 مايو, 2024: 10:14 م

د. نادية هناوي

إن ما يميز منظري السرد الأمريكان عن نظرائهم الفرنسيين هو الوضوح والمباشرة في عرض المسائل التجريدية والتدليل على أبعادها الجمالية.

وهذا ما يتضح بشكل جلي في ما قطعته المدرسة الانجلوامريكية من أشواط استطاعت بها أن تبز مدارس النقد التي سبقتها وفي ظرف يعد وجيزا بالقياس إلى الحقبة التاريخية التي فيها تمكنت تلك المدارس ولاسيما المدرسة الفرنسية من فرض هيمنتها على السرديات بكل صنوفها وقطاعات الاشتغال فيها.

وأولى بوادر الاستطاعة الامريكية تتمثل في ما كشفته في تنظيرات بارت وتودوروف وجينيت حول السارد والصوت والشخصية من غموض ولا موضوعية، وكان ذلك قد بدأ مبكرا في ستينيات القرن العشرين مع كتاب واين بوث( بلاغة الفن القصصي) وفيه وجد أن ما يعرضه السارد من عوالم خيالية غير واضحة، (يتركنا في الظلام تماماً عندما يتكلم عن نوع العالم الخيالي. ومن ثم تتطلب المشكلة موضوعية التعامل مع ما نعتقد أنه جوهر القصة). وإذ يشيد بوث بميخائيل باختين في ما توصل إليه من مسائل حول تقنيات الفن القصصي، فإنه يرى أن أعماله ما زالت غير معروفة من قبل الكثيرين.

إن اهتمام بوث بالوضوح والموضوعية في السرد جعله يضع القاعدة التي عليها أقامت المدرسة الأنجلو امريكية عمادها واستطاعت أن تخالف مدارس السرد الكلاسيكية. ولقد أثنى بوث على منظرين امريكيين مثل برسي لوبوك وجيرالد برنس الذي افترض جمهوراً يتمتع بدرجة صفر من الاستجابات الأدبية والأخلاقية والسياسية في حين أخذ بوث على جيرار جينيت تركيزه في كتابه (خطاب الحكاية) على جانب واحد عمم فيه رواية( البحث عن الزمان المفقود) لمارسيل بروست تعميما مبالغا فيه. مما جعل كتابه مضللا لو أُخذ بشكل انفرادي. علما أن بوث كان قد أكد في موضع ما أن تحليلات جينيت( من أكثر التحليلات التي رأيتها منهجية) ولكنه انتهى في موضع آخر إلى أن تنظيرات جينيت ستبقى( غير عملية من وجهة نظرنا. أن الدراسة البلاغية هي دراسة استعمال. . تصيب أو تخطيء .. نستطيع أن نعتمد على نتائج بحث جميع العلوم الأصلية للغة والإشارات والقصة وهذا ما نفعله في الواقع ..) وما يراه بوث هو أن اقناع القارئ بالخيالية بأنها ممكنة أو واقعية فعلا هو الذي يحقق للسرد الوضوح ويجعل القارئ متفاعلا وفاهما ومقيّما، لا تنتابه حيرة ولا تعتريه مشكلة.

والمؤسف أن بوث كغيره من المنظرين الغربيين وقف عند السارد والمسرود والمسرود له، ولم يعن بالحكاء الذي عرف في السرد القديم عنصرا سرديا كان يعلن عن نفسه من جهة ويؤكد لا علاقته بمجريات ما يحكيه السارد من جهة أخرى، مؤديا دورين في آن واحد: دوره العلني كناقل للسرد ودوره الخفي كصانع للسرد.

وهو - أعني الحكاء- في إعلانه عن نفسه وإخلاء ذمته في أن يكون متدخلا أو مشاركا في القص، إنما يريد تأكيد أن ما يسمعه المتلقي أو يقرأه من خيالات وغرائب جرت بقدرة أحد خفي وحصلت بإرادته في تسيير الشخصية ودفعها باتجاه مصيرها الذي يحدده هو لا غيره. وما بين سارد مستقل يُعلن عن نفسه وسارد غائب يُخفي نفسه تكون خيالية هذا السرد ممكنة من جهة الوضوح في أن الأمور تجري كما تشاء لها الظروف.

وهذا هو ما يشير إليه السرد غير الطبيعي الذي فيه تكون فاعلية التخييل مقصورة على السارد الذي هو في الظاهر يؤدي دوراً غير الدور الذي يؤديه وهو مختفٍ ومتوارٍ بشكل وهمي.

وكان السرد القديم قد اعتاد توظيف الحكّاء فلم يكن له اسم ولا دور كما أنه متصالح مع سامعيه أو قرائه كونه يقدم لهم حبكا واضحا لا تعقيد فيه كما لا إفراط في العواطف ولا انغماس في الأفكار وهو وإن كان في هذا مثل السارد العليم لكنه يختلف عنه في أن ظاهرية عمله مخالفة لجوهر وجوده، فهو ليس مستقلا ولا مفصولا كي يكون موضوعيا وإنما هو منتم ومتصل وقصده أن يكون فاعلاً.

ولم يحض الحكاء بدور في السرد الحديث الذي هو في مجموعه ممكن الوقوع، ولم تقف النظرية السردية عنده وقفة مناسبة وتركت أمر اشتغالاته على الغارب من دون توضيح وافٍ.

ولعل تنظيرات نقاد السرد غير الطبيعي هي التي أحيت الاهتمام بدور الحكاء في السرد القديم مما كان واين بوث قد وقف عنده مليا لكن بشكل عام وفي إطار التعبير عن موقفه من الخيالية والواقعية. وهذه الأخيرة لها قوانين تجعل السرد واضحا وبسيطا.

وطالب بوث بضرورة أن تتغير قوانين الروايات التي فيها ينصاع المؤلف لذاته، معارضا بذلك الذين يعدون الفن القصصي القديم عفا عليه الزمان بسبب(مخالفته لبعض القوانين العامة والغامضة التي اخترعت في الأيام الحديثة)، وأضاف قائلا: ( ما زلت أود ان أعارض صانعي القوانين ولكني كنت أرغب في أن يكون جدلي ضدهم واضحا في صورة بيان قوي لسببين: الأول لماذا وجدوا أن الممارسات القديمة تصبح مغرضة؟ والثاني لماذا تستحق القوانين الجديدة كل التأييد المطلق ؟)

أن تشديد بوث على الوضوح نابع من اهتمامه بالقارئ، معتبرا أن الأهمية الحقيقية للسرد في حياتنا هي في الوضوح، وضرب مثلا بالحيوان الذي يتعامل مع العالم من خلال الحس فهو يتذوق البرتقالة بنفس القوة التي نتذوقها بها ولكنه لا يستطيع أن يحكي قصة عن مذاق البرتقالة وهذا هو دور السارد المتنكر الذي لا يظهر علنا لكنه يخبرنا ما نريد أن نعرفه، وكذلك النص السردي الرقمي الذي يكتب كبرنامج عشوائي في الكومبيوتر لكن وجود هذا السارد هو الذي يجعله مترابطا فيجد القارئ فيه المعنى. فالعمل القصصي بحسب بوث مكون من أشخاص وليس من لغة هي خادعة وتترك الوعي الداخلي مرتبكا، مما يحرمنا من وجهة نظر موثوقة عن الشخصيات ومحيطها.

وقد طرأ على وظيفة الحكاء في السرد المعاصر وبخاصة قصص بورخس تغيير طفيف من ناحية أن ظهوره الابتدائي في السرد يكون على نية أنه سارد عليم يعلن عن نفسه بضمير الشخص الثالث ثم ما يلبث أن يناور قارئه بأن يجعله يبدو في الظاهر قد غادر السرد ليترك المكان للسارد أن يأخذ طريقه في الاستمرار لوحده بشكل خيالي يقنع القارئ فيتوهم أن ما يقرأه حاصل من دون تدخل سارد خارجي بينما الحقيقة أن الحكاء الذي بدأ القصة ساردا عليما صار الآن ساردا مختفياً يمسك الحبكة بيديه ويعقدها بنفسه موجها الشخصيات غير الآدمية نحو مصير يختاره هو، وبه تنفرج الأحداث ويتلاشى التأزم السردي.

وهذا الوضع الذي فيه يكون السارد العليم في منأى من المطالبة بمحاكاة الواقع الموضوعي نجده قريبا من الوضع الذي كان عليه سارد رواية( مزرعة الحيوان) لجورج اورويل، فمثلما شرع السارد يتخفى في شخصية خطيب هو خنزير اسمه العجوز ميجر كذلك تخفى سارد هذه القصة بشخصية خطيبة هي الجدة مبروكة التي نادت جموع الحمير قائلة:( يا أبنائي الأعزاء أعرف أنكم تعرضتم لظلم فادح وعانيتم من الفزع.. ولكنهم فعلوا الأكثر من ذلك..المشكلة الأساسية التي دعتني إلى إطلاق نهيق هذا التجمع التاريخي الذي لم يشهد الزمان مثله من قبل أعني مشكلة الذبح المسعور) ، وكان قرارها ثوريا كقرار العجوز ميجر لكن بشكل غير مباشر فقد طلبت من الحمير الفرار الى الصحراء. والفرار هو إعلان عن التمرد على البشر فما عاد مصير الحمير مقرونا بالبشر، بل هو مقرون بهم ليحددوا طبيعة نهاياتهم بأنفسهم.

ولو كان السرد واقعيا والشخصيات آدمية لبقي السارد العليم مؤديا دوره الموضوعي كشخص ثالث مراقب وربما مقتحم لكنه في السرد غير الواقعي غير مضطر الى التمويه ومخاتلة قارئه ولذلك بدا في مستهل القصة عليما وصار في تأزم الحبك متنكرا في صورة حكاء أما القارئ فلم يكن له أمام هذا الوضوح السردي سوى أن يكون مستمعا لا يسأل ولا يعترض، بل هو مصدق منطقية القصة غير الواقعية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

اليوم ..خمس مباريات في انطلاق الجولة الـ 36 لدوري نجوم العراق

بدء التصويت في انتخابات فرنسا التشريعية

"واتساب" يختبر ميزة جديدة عند الفشل بارسال الصور والفيديوهات

تطوير لقاحات جديدة للقضاء على الحصبة نهائياً

الأونروا: سكان غزة فقدوا كل مقومات الحياة

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت

حوار مع الروائية الفيلسوفة أيريس مردوخ : الرواية الجيدة هي هِبة للإنسانية

"الزنا".. أحدث روايات الكاتب البرازيلي الشهير باولو كويلو

هل دجلة الخير للجواهري نهر؟

كيف تموت منتحرا؟

مقالات ذات صلة

فشل الذكاء الاصطناعي في مضاهاة الخلق الأدبي والفني
عام

فشل الذكاء الاصطناعي في مضاهاة الخلق الأدبي والفني

د. نادية هناويمنذ ثورة أوروبا الصناعية في القرن التاسع عشر، والعالم غير الصناعي ينظر بعين الريبة إلى المستحدثات الصناعية والمبتكرات العلمية، متوجساً مما ستصل إليه الثورة العلمية من اختراعاتٍ وتقنياتٍ، فيضع احتمالاتٍ مستقبليةً فيها...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram