حيدر المحسن
بالإضافة إلى التخلص من الملل والكسل، تنمّي قراءة الكتب عادة النظر إلى العالم بشكل مختلف. كلّ ما موجود أمامنا له نظير حقيقي على الورق. نقرأه، ونتذكّر أننا شاهدناه من قبل، ثم نسيناه، وتعود ذكراه إلينا مثل الصدى، ويأتي اكتشافنا له هذه المرة عن طريق الذاكرة، الغرفة التي نجتمع فيها مع أسلافنا دون أن نشعر.
الأجيال التي بادت تروي للقادمين الجدد ما رأته، والخبرة تتقوّى بتراكمها، وتزداد معرفتنا بالأشياء بواسطة المدارك التي تهيّأت لأجدادنا الغافين في ذهننا المضمر، المكان الذي يطلق عليه العلماء اسماً شاعرياً هو اللاّوعي. تنتقل هذه المعرفة بواسطة الذاكرة المغمورة في التراب مع عظام الأسلاف، لتشكّل لنا رؤية جديدة للعالم. هذه الحقيقة تفسّر لنا لماذا بقيت الشعوب التي بلا أدب عظيم - مثل المغول - في بدائيتها رغم مرور آلاف السنين عليها. إنهم يعيشون في غشية السّحر والإيمان بالخرافة والطقوس الغريبة في محاولة الكشف عن الغموض الذي يكتنف الكون، بينما يترع أسلافنا كأسنا بعصير المعرفة عندما يضيفون خبرتهم لنا بما بلغوه من تُحف أدبيّة.
أخبرني القاصّ محمود عبد الوهاب إنه لا يستطيع الخروج إلى الشارع والتكلّم مع الناس إذا لم يقرأ مدة أسبوع واحد فقط. سبعة أيام كافية كي يتحقّق النسيان الكامل للدراية بجوهر الوجود، وعندها يواجه المرء الحياةَ وهو أعزلُ إلّا من خبرته المتواضعة. لقد تخلّى عنه أسلافه وتركوه وحيداً في المعركة.
كي أعبّر عن تأثير كتب الأدب أستعير مشهداً قصصياً للكاتب البرازيلي ماتشادو ده أسيس (1839 – 1908) في قصته: "دونا باولا". كانت المرأة خارجة من المسرح متأخرة عن زوجها بخطوات، وشعرتْ فجأة بدم مختلف يجري في عروقها لأن عشيقها أعلن لها حبّه: "حدث هذا في المسرح الغنائي ذات مساء، وكنا نوشك على مغادرته. كان يأتي إلى مقصورتي ليرافقني إلى العربة. وعند خروجنا، نبس بثلاث كلمات". الكلمات هذه أعطتها قوة القلب الكافية كي تنفصل عن زوجها: "لم أكن قادرة على الجلوس ساكنة. نظرت من خلال نوافذ العربة، ومن وقت إلى آخر لم يكن في وسعي أن أرى سوى وهج مصابيح الشّارع، ثم لم يعد في وسعي حتى أن أرى ذلك وبدلاً منه رأيت الشّرفات العليا للمسرح والسلالم وجماعات الناس، ورأيته بجواري يهمس في أذني بتلك الكلمات. ثلاث كلمات لا غير...". لقد تحقّقت الحريّة للزوجة من سجنها العميق والمظلم، حيث كانت تعيش مع رجل سكّير ومبتذل وتافه.
أصغى كلّ منّا ذات يوم إلى مثل هذه الكلمات، وتبدّلت بعدها حياته. بالنسبة إليّ، حدث الأمر أوّل مرّة مع الشاعر محمد سعيد الحبوبي في أثناء استراحة الظهيرة بعد يوم شاقٍّ من العمل. تناولت غدائي، وطالعت قصيدتين من ديوانه. لم أستطع البقاء بعدها في مكاني فنزلت إلى الشارع، ورأيتُ كلّ شيء تغيّر، كأني كنتُ أعمى، ووهبني الحبّوبي نعمة البصر، وها أنذا أرى ألوان السماء وضوء الشمس وزرقة الظلّ ترميها الأشجار على الأرض. يقول إدغار موران: "ليس للحياة بحدّ ذاتها معنى، الشعر هو الذي يمنحها معنى".
لم يُعطَ الحبّوبي الشاعر حقّه من الدراسة والنقد، مع أنه آخر من أبدع في عمود الشعر، فهو عاشه في الحياة مثلما في القصيدة، على خلاف من أتى بعده وقضى سنينه في الحاضر، بينما ظلّ يقرض الشعر القديم، وهذا ليس موضوعنا...
خَبِرتُ الكلمات الثلاث ثانية بعد انتهائي من مطالعة قصص "رغوة السّحاب" لمحمود عبد الوهاب. كنت أجلس في مكتبة تطلّ بنافذتها على الطريق المؤدي إلى السوق. أتممتُ الكتاب وكانت تخطر أمامي امرأة لم تكن جميلة، لكني استطعتُ اكتشاف أعماق روحها، ورأيتها بصورة جنّية مبحرة على الأمواج، والهواء الرطيب مثل دمٍ أبيض يلّون جسدها المختفي وراء قميص أصفر وتنورة سوداء. مرّة ثانية مع موران: "الشعر يرى اللامرئي من خلال المرئي، وهذا ما سماه رامبو "الاستبصار".
بعد تينك الخطوتين أحسب أنه صار في مقدوري أن أقوم بالخطوة الثالثة، وأدخل وطني الجديد: جنّة الأدب.