ستار كاووش
المكتبات هي بهجة المدن وسر جمالها، هي أساس ديمومتها وإنتعاش ثقافتها. والمدينة أو القرية التي ليست فيها مكتبة معتبرة، لا يمكن أن يُعَوَّل على تأثيرها وحيويتها، فالكتب تنهل غالباً شيئاً من روح المكان الذي تصدر منه، قبلَ أن تنطلق بأجنحتها مثل الطيور نحو فضاء العالم الواسع وتنسجم مع حياة كثير من الناس.
ورغم إن الكتب باقية وتتمدد، تُنشَر وتَنتَشِر، فمازال الكثير من الناس يرددون: لقد ذهب وقت الكتاب الورقى وسيختفي الى الأبد. ومن يسمع ذلك يعتقد بأننا قد وقعنا فعلاً في غرام الكتب الالكترونية وصرنا نلتهمها إلتهاماً كل ساعة وكل يوم. والحقيقة هي إن أعداداً لا حصر لها من دور النشر، مازالت تطبع الكتب وملايين الناس يتلقفونها فور خروجها من المطابع. وفي هولندا التي أعيش فيها وأرسم وأكتب، توجد مئات دور النشر التي لم تتوقف عن طبع أعداد لا حصر لها من الكتب التي يتابعها ويقتنيها الكبار والصغار، وفي مختلف الموضوعات. أما التلفزيون فتُعرض فيه برامج عديدة خاصة بالكتب، وتُمنح الجوائز في أوقات عديدة لأفضل كاتب أو كاتبة، وتقام في كل مكان تقريباً إحتفالات عروض الكتب، مع مئات الأماسي لتوقيع الكتب الجديدة، سواء في المكتبات، المقاهي، المسارح والكثير من المؤسسات الثقافية التى تملأ البلد. وبمناسبة الحديث عن الكتب، دخلتُ قبل بضعة أيام الى المكتبة العامة في مدينتي الصغيرة دراختن، والتي تبعد عن مرسمي عشر دقائق مشياً، وهناك مثل كل مرة أدخل فيها هذه المكتبة، أقول مع نفسي: ما أعظم هذه البناية بكل ما تحمله من كتب ومطبوعات مدهشة. هنا بعد أن تجد كتابك المفضل وقبل ان تخرج الى البيت، تتجه عفوياً نحو الطابق الأول حيث المقهى المطلة على الشارع، تجلس تتأمل المارة وتشرب قهوتك على مهل وأنت تتحسس الكتاب الذي إستعرته، تتطلع الى غلافة وتقلب بعض صفحاته بفضول قبل أن تغادر المكان. الأمر المدهش بالنسبة لي، هو إن هذه المكتبة قد تَمَّ إختيارها هذه السنة كأفضل مكتبة عامة في كل هولندا، متفوقة على مكتبات عريقة مثل مكتبة مدينة امستردام والمكتبة الملكية في لاهاي وحتى مكتبة روتردام الفاخرة ومئات المكتبات التي تملأ البلد. ياله من حدث مدهش أن تكون أفضل مكتبة في هولندا قريبة مني لهذه الدرجة. أشعر حقاً إن جزء مني موجود في هذه البناية الجميلة، خاصة أن رفوفها تضم ضمن كتب الإستعارة كتابين من كتبي التي طُبعت باللغة الهولندية، وهي نساء التركواز، وغموض الرسام، كذلك تتوفر فيها أعداد مجلة أتيليه التي أكتب فيها عموداً ثابتاً ومقالات تتعلق بالرسم.
وبالعودة الى الكتب، فحسب الاحصائيات الجديدة، قد إزدادت شعبية الكتب الورقية وكثر الأقبال عليها في هولندا بالآونة الأخيرة، وصاحبَ ذلك أيضاً إنتعاش الأسواق المفتوحة للكتب، والتي تقام تباعاً في كل المدن والقرى، حيث تفترش الكتب على عشرات الطاولات الكبيرة في الهواء الطلق، وسط إقبال الناس من كل مكان. ويُضاف الى ذلك ما أعلنته مكتبات وأماكن بيع الكتب حول الزيادة الملحوظة لمبيعات الكتب الورقية. وتقول إحدى الإحصائيات بأن غالبية الناس قد ملّوا من الكتب الالكترونية التي لا تمنح الناس متعة الكتاب الحقيقي، والناس عامة بحاجة الى الإمساك بالكتاب وتقليب صفحاته وحتى شم رائحة الورق والطباعة، فلهذا سحر وجاذبية كبيرة يعرفها القراء الحقيقيون.
بإمكاننا عموماً قراءة بعض المقالات أو متابعة الأخبار هنا وهناك من خلال المواقع الثقافية أو الاخبارية، لكن الكتاب الورقي شيئاً آخر، وهو لن يختفي بهذه السهولة كما يشيع البعض، إنه جزء مهم من حياة الناس. يُضاف الى ذلك ان الكتب الالكترونية لا يمكنك قرائتها في كل مكان وبأي وقت، فيما الكتب الورقية قريبة وأكثر حميمية، حيث يمكنك شرائها او اهداءها وإستعارتها، وحتى تركها في القطار بعد الانتهاء من قراءتها، ليستفيد منها شخص آخر.