طارق الجبوريقبل الخوض في تفاصيل رد الكاتبة إيمان محسن جاسم على ملاحظاتي المنشورة بتاريخ 23 تشرين الثاني، فإني أشكرها على ردها،وأجد أن من الضرورة الانتباه الى معانيه ومغزاه وهو الحالة الجديدة التي بدأت تأخذ طريقها للتطبيق في العراق المتمثلة بالتحاور والنقاش العلمي الحضاري على قاعدة احترام الرأي الآخر،وهو ما يمكن تلمسه بالرد الذي هو أشبه بالتعقيب .
ولكي لايأخذ الموضوع منحى السجال، سأمّر سريعاً على ما أوردته الكاتبة، فمع تسجيل تقديري الكبيرلما جاء فيه إلا أن الذي غاب عن ذهن الكاتبة كما يبدو ان الملاحظات كانت اصلاً على اسلوب التعميم الذي اعتمدته في تقييم التاريخ العربي ،والانتقائية في إيراد الأمثلة بشكل لانسحب انه يخدم جوهر الموضوع (كتابة التاريخ أم صناعته ؟) ،ومع ذلك نجدها تحاول الإيحاء بسلبية ارتباط ( التاريخ في بلا د العرب بشكل كبير وسخر لخدمة ولاة الامر ..) دون ان تكلف نفسها الاشارة الى الضوابط والقواعد التي ينبغي ان يلتزم بها المتصدي لكتابة التاريخ ومنها على سبيل المثال وليس الحصر: ان يكون عادلاً ويتبع المنهج العلمي الدقيق وان ( يكون ملماً في تحليل الاحداث وان يبتعد عن الاهواء المذهبية او الفئوية او القومية او السياسية .. ) . ولأن الكثير من التاريخ في فترة المرحلتين الاموية والعباسية يتعلق في جوانب منه بالحديث النبوي الشريف فقد تم الحرص على تدقيق الروايات والراوي خاصة في ظل انتشار( الوضّاعين)، ما اقتضى ظهور ما يسمى علم الرجال والجرح والتعديل ،مع ضرورة ان البعض لم يلتزم بهذه القواعد ،لكنه كان يشير الى ذلك وينبه عليه كالطبري مثلاً الذي اشار في مقد مة كتبه صراحة الى انه لم يقم بتجريح وتعديل رواة الحديث وكان معروفاً عنه ان يذكر الرواية على ذمة قائلها .أما في ما يتعلق بما نجده في مناهجنا الدراسية ،فرغم ما لديّ من ملاحظات عديدة عليه وتمنياتي بأن يتم تناول هذا الموضوع في المدارس بشكل علمي لايؤجج نزعات التفرقة والصراعات الطائفية ،فإني وبصراحة لم أقرأ خلال مراحل دراستي المتوسطة والاعدادية اي محاولة لأحد بعدم اعتبار (حكم الدولة العثمانية للامصار العربية والاسلامية الذي امتد اربعة قرون احتلا لاً شأنه شأن الاحتلال الصفوي والمغولي والفرنسي والانكليزي ) ،كما ان مطالعاتي عدداً بسيطاً من مناهج كتب التاريخ التي كانت تدرس في مراحل متفرقة ،لم تدلني على من حاول ألاّ يصنف الدولة العثمانية كونها محتلة ،بل ان الكثير من الكتاب العرب للتاريخ أشاروا في مواضيع عديدة ان من اكبراخطاء الدولة العباسية التي ادت الى سقوطها هو تدخل العنصر التركي في الخلافة وسيطرتهم على الخلفاء الذين صاروا دمى تحركها هذه العناصر بحسب أهوائها ومصالحها الخاصة ،كما انه كيف يستقيم ما يريد ان يؤكده الموضوع بشأن الانحياز الى الدولة العثمانية ،مع محاولات اخرى انتقدتها كتب التاريخ العربي بشكل حاد خاصة ما يتعلق بتعصبها القومي فأسست لتكوين تيارات مناهضة تطورت لاحقاً لتشكل تياراً مناهضاً للحكم العثماني والتحالف مع انكلترا لتقويض حكمها وقيام الثورة العربية الكبرى بقيادة الشريف حسين الذي نكث الانكليز بكل عهودهم معه . نعم كان هناك من دافع عن الدولة العثمانية ولكن لأي غاية ولأي غرض وما هو الدافع ؟ هذا ما علينا ان نبحث عنه ونعرف أسبابه لكي لا نقع بخطأ التعميم المطلق . ولا أدري لماذا تصر الكاتبة على رؤيتها الخاصة للتاريخ العربي وتجزم بـ ( ان الكثير من المصادر التاريخية التي نعتمدها في دراستنا هي كتب مترجمة لهؤلاء المستشرقين الاجانب )،مع علمها قبل غيرها ان العلوم كلها ومن بينهاالتاريخ هي مزيج تفاعل عدة آراء وتجارب تشترك في صناعتها مجموعة من الشعوب ،ولا يمكن ان تكون حكراً على قومية دون غيرها. وقد ينطبق الشيء نفسه على ما اوردته بـ ( حمل المفكرين العرب أفكار الالمان او غيرهم من الأوروبيين) وتعذرني اذا قلت انني اجدها في رؤيتها الخاصة متأثرة ،ربما دون قصد ،بحملة منظمة ليس وليدة اليوم بحملة التشهير بالتاريخ العربي وعده سوداوياً بمجمله .ولتعذرني ان اقترح ألاّ تنساق الدعوات لإعادة كتابة التاريخ للتعميم المطلق وان نتذكر جهد العديد من أمثال قسطنطين رزيق الذي يقول ان من يكتب التاريخ عليه ان يتحلى بـ ( الجد والمثابرة والشك والنقد والتجرد من الاهواء والشعور بالمسؤولية ) وان نتوقف عند المجهودات الكبيرة للعلامة جواد علي في ( المفصل في تاريخ العرب ) وشيخ المؤرخين العرب عبد العزيز الدوري الذي استذكرته وأبنّته المدى وفاءً لعطائه الكبير وغيره . أخيراً أتفق مع الكاتبة في بعض ما أوردته، لكن النقطة الرئيسة التي اختلف فيها معها ،طريقة التعميم المطلق الذي قد يجعلنا نظلم جهود وعطاء آخرين دون قصد .. ومرة أخرى أشكرها على حسن ردها .
ليـس ردّاً.. ولكن .. حتى لا نظلم جهود المؤرخين العرب
نشر في: 29 نوفمبر, 2010: 05:27 م