TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > المشترك بين تموز بغداد ونيسان لشبونة

المشترك بين تموز بغداد ونيسان لشبونة

نشر في: 11 مايو, 2024: 09:36 م

رشيد غويلب

احتفلت قوى اليسار والسلام والتقدم في البرتغال والعالم هذا العام بالذكرى الخمسين لانتصار ثورة 25 نيسان 1974 والمعروفة بثورة القرنفل. هذه المساهمة محاولة لتسليط الضوء على المشتركات بين ثورة الرابع عشر من تموز 1958 العراقية وثورة نيسان البرتغالية،

من حيث طابعها ومسارها ومآلاتها، وكذلك تأثير التجربة العميق الذي سيظل يصاحب الصراع السياسي والاجتماعي في البلاد. ولا يفوتني التأكيد على التباينات التاريخية والثقافية بين البلدين والمنطقتين عموما وهذا انعكس بوضوح في نتائج الانقلاب على الثورتين، ففي حين أدت هزيمة 14 تموز الى عنف ودمار شامل ما زال يتفاعل الى اليوم. أنتج الانقلاب على ثورة القرنفل تراجعا سياسيا واقتصاديا لصالح الرأسمال المحلي والعالمي، ولم يؤد الى تراجع حضاري وخراب شامل.

طبيعة الثورتين

لم تكن الثورتان فعلا مستوردا، بل كانتا فعلا وطنيا خالصا، واعتمدت الثورتان على مشاركة وانتفاضة شعبية واسعة، حولت الحركة المسلحة التي قادها ضباط شباب يساريون ووطنيون ديمقراطيون الى ثورتين شعبيتين. لقد استطاعت ثورة القرنفل من الحصول على الشرعيتين الشعبية والدستورية، من خلال التأكيد على الانتخابات، وإقرار دستور تقدمي للغاية في الجمعية التأسيسية في 2 أبريل 1976 من خلال التعاون بين مختلف الأحزاب. لقد امتلكت ثورة تموز الدعم الشعبي وتعاون الأحزاب السياسية المسبق في إطار جبهة الاتحاد الوطني ولكنها فشلت في إقرار دستورها عبر جمعية تأسيسه، وكان هذا من أخطاء قيادة الثورة المبكرة جدا، ولم تجد نفعا محاولات الشهور الأخيرة من عمر الثورة في العودة اليه. واشتركت الثورتان بدور أساسي للحزب الشيوعي في كليهما سواء في العقود التي سبقت الثورة، او في التحضير والمشاركة في تنفيذها، وتعبئة أوسع الجماهير للدفاع عنها.

اسقطت الثورة البرتغالية نظاما فاشيا دكتاتوريا، مثل مصالح كبار ملاك الأراضي بما يتماشى مع مصالح الإمبريالية. واسقطت ثورة تموز نظاما ملكيا رجعيا زرعه الاستعمار البريطاني في العراق، جعل من الاقطاع قاعدته الاجتماعية الرئيسية. وكرس العلاقات شبه الاقطاعية شبه الرأسمالية، وحول المستعمرة البريطانية السابقة الى دولة تابعة.

كانت البرتغال أحد قلاع الاستعمار الغربي، لهذا جاء طابع الثورة مناهضا للاستعمار والإمبريالية، وكان نجاحها سببا رئيسيا في حصول المستعمرات على حريتها، وكذلك بوابة للتطورات التقدمية التي عاشها عدد من هذه المستعمرات في حينها. بالمقابل حررت 14 تموز العراق من التبعية للاستعمار البريطاني، وكانت جزء من حركة تحرر صاعدة في المنطقة، أحدثت تغيرا عميقا في توازن القوى في منطقة الشرق الوسط، وأنهت عمليا حلف بغداد المعادي لمصالح الشعوب، وكانت رافعة لصعود قوى تقدمية في العديد من البلدان المجاورة. واشتركت الثورتان في المساهمة الحاسمة في السلام: إنهاء الحرب الاستعمارية، والاعتراف بحق تقرير المصير للشعوب واستقلال المستعمرات السابقة.

انجازات الثورتين

بالإضافة الى ما أشرنا اليه بشأن تغيير ألنظمة الفاشية / الرجعية ومؤسساتهما الشريرة في البلدين، حققت الثورتان الحريات والديمقراطية: حرية التجمع والتظاهر، الموافقة على الأحزاب السياسية،، حرية تكوين الجمعيات، حق الإضراب، وحرية العمل النقابي. وفي البرتغال الانتخابات العامة والمباشرة..

وانفتحت في آفاق جديدة في النضال من أجل القضاء على العجز الاجتماعي: التقدم في تحسين الظروف المعيشية للعمال والشعب، وإدخال النظام الصحي الحكومي، والزيادات الملحوظة في الأجور والزيادات في معاشات التقاعد ومدفوعات التقاعد، وحماية الضمان الاجتماعي، لقد تم إحراز تقدم كبير في مجال الحقوق المدنية: المساواة للمرأة، وجملة من السياسات الاجتماعية التي تباينت بين البلدين نتيجة للتباين في تطورهما وموقعهما الجغرافي. وبالإضافة إلى ذلك، كان هناك دعم للتعليم والثقافة والرياضة، وحوافز للأنشطة الترفيهية.

وكانت التغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الأخرى مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بديمقراطية اجتماعية: التأميم (القانون رقم 80 في العراق)، والإصلاح الزراعي، قوانين وإجراءات تقدمية في عالم العمل، والتحرر من دكتاتورية الاحتكارات الأجنبية.

الثورة المضادة

منذ اللحظة الأولى لانتصار الثورتين عملت قوى الثورة المضادة، لعرقلة تقدمهما، واسترداد ما يمكن استرداده وكانت محاولات وقف مسيرة الثورة عديدة ومتنوعة في طبيعتها. في البرتغال، كان التركيز على تركيز السلطة في يد شخص واحد من أجل تأمين أهداف الطبقة الحاكمة. ينبغي أن يظل هيكل النظام الفاشي على حاله، ولا ينبغي السماح باتخاذ خطوات نحو إرساء الديمقراطية في المجتمع البرتغالي. ومن ناحية أخرى، بالطبع، يجب أيضًا إيقاف عملية إنهاء الاستعمار من أجل إطلاق مشروع استعماري جديد بديل.

وعملت القوى الخارجية والداخلية المرتبطة بها بشن حرب أيدولوجية في البلدين ركزت على الخطر الشيوعي الداهم، وعادت الى خزين معاداة الشيوعية سيئة الصيت. وتشكل تحالف بين القوى المتضررة من نجاح الثورتين، وبدعم خارجي. في العراق تحالفت شركات النفط مع الاقطاع، والمؤسسات الدينية التي تعاملت مع الثورة على انها خطر يهدد هيمنتها، وكان الذراع السياسي لهذا التحالف البعث والقوميون المتشددون مدعومين من الأنظمة الرجعية المجاورة التي كانت حريصة على تجاوز مصير مشابه لنهاية النظام الملكي في العراق. وبالتحالف مع الولايات المتحدة وبريطانيا.

لقد تعرضت الثورتان الى عدد من الانقلابات العسكرية الفاشلة: في البرتغال انقلابان في تموز 1974، واذار 1975، بالإضافة الى استخدام التفجيرات والتخريب وغيرها من الهجمات لعرقلة مسار الثورة. وبرزت بشكل خاص المنظمات الإرهابية اليمينية المتطرفة: "جيش تحرير البرتغال"، و"الحركة الديمقراطية لتحرير البرتغال". وفي العراق تعرضت الثورة في عمرها القصير الى أكثر من 30 محاولة انقلابية، كان آخرها انقلاب 8 شباط الأسود، الذي أنهي مسيرة الثورة. عملت الثورة المضادة في البلدين، منذ البداية، من خلال أجهزة الدولة المؤقتة ثم لجأت إلى الوسائل الإرهابية. لقد تم التشهير بالقوى الديمقراطية الأكثر تقدمية وثباتا، سواء المدنية أو العسكرية. بهذه الاستراتيجية المزدوجة، نجحت الثورة المضادة في البرتغال في حرف الثورة من مسارها التقدمي عبر القوى التي وصلت للسلطة، وتبنت خطابا سياسيا تقدميا لخداع الشعب، في حين عولت على دعم القوى التي حولت البرتغال إلى الدولة الأكثر تخلفًا في أوروبا.

ولا يختلف الدور الأمريكي في البلدين الا في طبيعة ادواته، وعمق اثاره التدميرية. في العراق. لقد عملت الولايات المتحدة على زعزعة استقرار البلدين، وكانت وراء تجميع وتسليح القوى الأشد عداء للثورتين.

لقد أدرك الأمريكيون "الخطر الشيوعي" الوشيك المفترض. لقد أبلغ جيرالد فورد وهنري كيسنجر الرئيس البرتغالي كوستا جوميز بعدم الرضا عن مشاركة أعضاء الحزب الشيوعي في الحكومة البرتغالية. وفي آب 1974، أرسلوا على الفور نائب مدير وكالة المخابرات المركزية فرانك كارلوتشي إلى البرتغال "لحفظ النظام". وكإجراء احترازي، عينوا فيما بعد فرانك كارلوتشي سفيرهم في لشبونة حتى يتمكن من إبعاد "الخطر الشيوعي".

مواقف مشتركة

ترفض قوى اليسار والتقدم في البرتغال والعراق محاولات إعادة كتابة التاريخ، التي يقوم بها أعداء الثورة داخل السلطة وخارجها. إنهم يريدون إخفاء الطبيعة الإجرامية للأنظمة التي أطاحت بها الثورتان والعمل على تبيض صفحة المتآمرين عليها، مستندين على الأكاذيب في سياق هجوم أيديولوجي. إنهم يحاربون الثورة الديمقراطية والوطنية لأنها تحظى بشعبية لدى الشعب، ولأنها أحدثت حينها تغييرات جوهرية في جميع مجالات المجتمع، في محاولة بائسة في إعادة كل شيء الى الوراء. وفي مركز هذه العملية تقف محاولة للتقليل من أهمية الدور الذي لعبه الحزبان الشيوعيان، والتقليل من أهمية المساهمة الحاسمة التي قدمها الحزبان في تهيئة الظروف لثورتين.

يمكن القول ان الثورتين كانا عمليتين ديمقراطيتين لم تكتملا، لكنهما يشكلان رصيدا لا ينضب لكل القوى الساعية، كل وفق تطوره التاريخي، لإقامة البديل الديمقراطي الحقيقي الذي يجب ان يتسم بالحرية الذي يستطيع الشعب من خلاله أن يقرر مصيره في دولة ديمقراطية وتمثيلية وتشاركية؛ والتنمية الاقتصادية على أساس اقتصاد مختلط لا تهيمن عليه الاحتكارات، او مافيات الدولة العميقة. وسياسة اجتماعية تقوم على تحسين الظروف المعيشية للعمال والناس؛ وسياسة ثقافية تضمن حرية الإبداع والوصول دون عوائق الى المعلومة؛ دولة مستقلة ذات سيادة، وسياساتها مبنية على السلام والصداقة والتعاون بين الشعوب.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: في محبة فيروز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

 علي حسين لا احد في بلاد الرافدين يعرف لماذا تُصرف اموال طائلة على جيوش الكترونية هدفها الأول والأخير اشعال الحرائق .. ولا أحد بالتأكيد يعرف متى تنتهي حقبة اللاعبين على الحبال في فضاء...
علي حسين

باليت المدى: جوهرة بلفدير

 ستار كاووش رغمَ أن تذاكر الدخول الى متحف بلفدير قد نفدت لهذا اليوم، لكن مازال هناك صف طويل جداً وقف فيه الناس منتظرين شراء التذاكر، وبعد أن إستفسرتُ عن ذلك، عرفتُ بأن هؤلاء...
ستار كاووش

التعداد السكاني العام في العراق: تعزيز الوعي والتذكير بالمسؤولية الاجتماعية

عبد المجيد صلاح داود التعداد السكاني مسؤولية اجتماعية ينبغي إبداء الاهتمام به وتشجيع كافة المؤسسات الاجتماعية للإسهام في إنجاح هذا المشروع المهم, إذ لا تنمية من دون تعداد سكاني؛يُقبل العراق بعد ايام قليلة على...
عبد المجيد صلاح داود

العلاقات الدولية بين العراق والاتحاد الأوروبي مابين (2003-2025)

بيير جان لويزارد* ترجمة: عدوية الهلالي بعد ثمان سنوات من الحرب ضد جمهورية إيران الإسلامية (1980-1988)، وجد العراق نفسه مفلساً مالياً ومثقلاً بالديون لأجيال عديدة.وكان هناك آنذاك تقارب بين طموحات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي....
بيير جان لويزارد
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram