غالب حسن الشابندر
" 2 "
تكلَّمت في الحلقة الاولى عن معالم الخطر الذي يحف المرجعية الدينية الاسلامية الجعفرية، وتساءلت في الاثناء عمّا يخبيء المستقبل لهذه المرجعية، وفي هذه الحلقة أعالج بعض الانتقادات التي وجهتها بعض الاوساط من داخل الوسط المرجعي لتدخل المرجعية بالذات بالشأن السياسي العام.
ماذا لو أن الآباء الأولين لم يفتوا بمقاومة الاحتلال الاجنبي للعراق، وماذا لو ان الآباء الاولين لم يفتوا بمحاربة داعش، وماذا لو أن الآباء الأولين لم يفتوا بوجوب كتابة الدستور بايد عراقية، وماذا لو أن الآباء الأولين لم يفتوا بوجوب ارجاع الآثار المسروقة الى المتحف الوطني،وماذا لو أن الآباء الاولين لم يفتوا او يوجهوا بالتسامح والتفاهم بين مكونات الشعب العراقي في زمن التعنت والعمى الطائفيين، وماذا لو أن السيد السيستاني لم يشجع على الانتخابات، وماذا لو لم تكن هناك خطبة جمعة....؟
وإذا اردت ان اختصر القضية، اقول: ماذا لو ان الآباء الأولين لم يملأوا الفراغ المخيف الذي تركه سقوط صدام حسين؟!
وبعبارة اشد صراحة...
ماذا لو ان الآباء الاولين لم يتدخلوا بالسياسة؟
سمعنا: ان بعض مرشحي المرجعية بعد غياب الآباء الاولين المحتمل يستنكرون على الآباء الاولين تدخلهم بالشان العام، ويستنكرون عليهم البت في بعض خلافات القوى السياسية في العراق، بل ويستنكرون عليهم نداءتهم ونصائحهم لشيعة البحرين ولبنان وافغانستان على صعيد مواقف الشيعة من الانتخابات والعلاقات بالسلطة والأغيار، والحجة: إن هذا ليس من شؤون المرجعية...
سمعنا: ان بعضهم يقول يجب العودة الى نهج السيد الخوئي رحمه الله، وهناك تحريك من خارج الحدود بهذا الاتجاه الخطير، وأقول: ان هذا التفكير بلحاظ الواقع الذي يعيشه شيعة العالم، وشيعة العراق على وجه الخصوص إقصاء للمرجع والمرجعية، لا بقاء لمشروع المرجعية في هذا الزمن الملتهب بدون المساس بالواقع المتفجر.
وسمعنا: ان المرجع ينبغي أن يتدخل في كل صغيرة وكبيرة من شؤون السياسة، الحكومة، الدولة، الاحزاب، بل يشترط في ترشيح نفسه بان يكون مبسوط اليد، وكأنما يُمضي ولاية الفقيه المطلقة، وهو نهج رغم المفارقات الشرعية في صدده، وذلك في تقريرات الفقهاء أنفسهم، بما فيهم (الخط الثاني) يُدخلنا في حرب شيعية / شيعية، ليس داخل العراق وحسب بل وخارج العراق ايضا، ولا اعتقد ان سبب ذلك غائب على ذوي الحجى من رواد هذا الميدان...
لنكن أكثر وضوحا...
ماذا لو ان الاباء المؤسسين اليوم لم يؤسسوا المياتم والمستشفيات وبعض المدارس، ومصانع التاهيل والرعاية؟
هل يمكن الاستهانة مثلا بمؤسسة العين على صعيد دورها في رعاية أيتام آل محمد؟
لا مرجعية اليوم يمكنها ان تغفل عن التماس اليوم بالشأن السياسي، بل بالشأن الاجتماعي بمفهومه العريض.
الشيعي اليوم ارتبط بالمرجع من حيث يشعر أو لا يشعر اجتاعيا وليس روحيا وحسب، الشيعي اليوم خاصة العراقي والايراني ينتظر من المرجع موقفا سياسيا واجتماعيا أكثر مما ينتظر الجواب على الموقف من الشك بين الاربع والثلاث في ركع الصلاة...
الشيعي اليوم، الملتزم وغير الملتزم وجد نفسه بالضرورة والقضاء بأنه مرتبط بمرجع، وهذا الارتباط يتخطى الرسالة العملية، الى القيادة الفعلية بخطوط عريضة، وهناك اسباب قاهرة تمخضت عنها هذه النتيجة الانقلابية الخطيرة، وما زالت هذه الاسباب قائمة، ومنها: ـ
أولا: فشل الانظمة السياسية (الشيعية) في تأمين مصير الانسان الشيعي في خضم هذا الهيجان العالمي الخطير، خاصة وإن من ابرز مفردات هذا الهيجان التجاذب الديني والطائفي في العالم الاسلامي.
ثانيا: عودة العلاقة بين الدين والسياسة حتى في اوربا، ودخول الدين في صلب الصراعات الدينية والمذهبية.
ثالثا: تهاوي المثل الاعلى على صعيد القيادات السياسية المدنية منها والدينية ممن شارك في الحكم بشكل خاص أو العملية السياسية بشكل عام.
رابعا: الطبيعة الدينية التقليدية بالنسبة للمسلم الشيعي، وتغليب الولاء الديني التقليلدي على باقي الولاءات التي قد تشمل حتى الولاء للوطن، وهي ظاهرة تحمل الكثيرمن المفارقات والتي الى حد هذه اللحظة لم تتم معالجتها.
خامسا: لأن الآباء الاولين قاموا بما حمى الوطن، وجنَّب الامة ويلات حرب اهلية كانت على الابواب.
لهذه الاسباب وغيرها لم تعد العلاقة بين المسلم الشيعي ومرجعه مقتصرة فقط على الرسالة العملية، أي الجواب على الاسئلة الشرعية المعهودة، بل العلاقة من خلال التماس الفعلي القوي بـ (الشأن) العام، حتى ولو رفض المرجع ذلك لسبب موضوعي او غير موضوعي.
اجازف بالقول: إن مستقبل المرجعية الدينية الشيعية وجودا وفاعلية يتوقف على اقتحامها الشان العام، وليس الاكتفاء فقط بالجواب على اسئلة فقهية عهدناها منذ قال وبلى.