TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > السياسة.. والمعاملة بالألوان والألقاب

السياسة.. والمعاملة بالألوان والألقاب

نشر في: 8 مايو, 2024: 10:49 م

رشيد الخيون

يُتحفنا شمس الدين الذهبي(ت: 748 هـ) في «سير أعلام النبلاء»، ثم ابن العماد شهاب الدِّين الحنبلي(ت: 1032هـ) في «شذرات الذهب» بأسماء أشراف الدِّين وشموسه وتُقاته، عُرفوا بـ«الصَّهاينة»، مثل شرف الدِّين عبد القادر الصّهيوني، وشمس الدِّين محمد بن عبد الرَّحمن الصُّهيوني (ت: 949هـ)،

وتقي الدِّين أبي بكر بن محمد الصهيوني(ت: 993هـ) وغيرهم، نسبة إلى جبل صهيون بفلسطين، لكن ما أن نسب تيودور هرتزل(ت: 1904) عقيدته إلى الجبل، صار اللقب مرفوضاً، لا يقبل مِن صاحبه، في مجتمعات ودول عديدة، حتى نُسي اسم الجبل نفسه.

كذلك على مدى التّاريخ تسمى الطائفة اليهوديّة بالعراق: الطّائفة الإسرائيليّة (الدليل العراق 1936)، لكن بعد (1948) صار هذا اللقب سلبياً، فتحول اسم الطَّائفة إلى الطائفة الموسوية، وظل هكذا(الدليل العراقي 1960).

كان السواد في العصر العباسي مقدساً، أو صار هكذا، بعد تعميمه شعاراً للثورة العباسيّة، ثم لباساً رسميّاً، في دوائر الدولة، فرضه أبو جعفر المنصور(ت: 158هجرية)- من القفطان إلى العمامة، ثم استبدلت الخضرة بالسواد، بأمر عبد الله المأمون(ت: 218هجرية)، بعد تعيين عليّ الرضا(ت: 203هجرية) ولياً للعهد، فالخضرة كانت شعار العلويين، ومازال، إلى يومنا هذا، المنتسبون للعلويين أو الهاشميين، ثيابهم تجمع بين السواد والخضرة، العمائم السُّود على رؤوسهم، والشّالات الخُضر حول رقابهم.

بيد أنَّ الخليفة المأمون، خشية مِن الانقلاب، سرعان ما عاد إلى السّواد، فاستبدل الموظفون السواد بالخضرة(الطَبريّ، تاريخ الأُمم والملوك)، ومِن المؤكد، بعد اجتياح المغول بغداد، صار السّواد يقتل صاحبه، على أنه نية لإعادة العباسيين إلى السّلطة.

أثرت السّياسة في الفقه ومسائله في الألوان، فكان الإمام أبو حنيفة النُّعمان(ت:150هـ) يعتبر صباغة الثَّوب المُغتصب بالسّواد ينقصه، لأنه يعد السَّواد نقصاناً في زمنه (الكاساني، بدائع الصنائع في ترتيب الشَّرائع). لكن بعدما أصبح المذهب الرَّسمي للدولة في زمن تلميذي النُّعمان قاضي القُضاة أبي يوسف(ت:182هـ)، وصاحب ديوان المظالم محمد بن الحسن (ت:189هـ) «اعتبرا السَّواد وسائر الألوان سواء» (نفسه).

كذلك، يغلب على الظَّن أنه لو عاش أحفاد المحدث إبراهيم بن مسيرة الطَّائفيّ (ت: 132 هـ)، والإمام أبو زكريا يحيى بن سُليم الطَّائفي (ت: 195 هـ) إلى اليوم، ما سلموا من المضايقة والمعارضة، لأنه تحول إلى «نبز»، مع أنَّه كان لقباً، نسبة إلى الطَّائف المدينة، ولا أظن النَّاس، الذَّائقين مرارة الطائفية، سيلتذون بالعنب الطائفي، مع أنه «عناقيده متراصفة الحَب» (الزَّبيديّ، تاج العروس). هذا، وقد تجد كلّ عقيدة وجماعة مَن يفتخر باسمها، إلا الطّائفيّة، تمارس بقوة، ويتبرأ الجميع مِن لفظها.

ليس أكثر مِن السّياسة الحزبيّة تلاعباً بالعقول، خصوصاً عندما تصبح بيد جماعات لا هم لهم غير تحشيد الأعوان، واجتماعهم بالألوان. ما نتذكره مِن تاريخ العراق القريب، بعد (1963) وطغيان التّيار القومي صار اللون الأحمر تهمةً، حتّى بائعي «الرقي»، امتنعوا مِن مناداتهم «أحمر شرط السكين»، ولا يُقال للطماطم حمراء، بالمقابل عند طغيان التيار اليساري الشيوعيّ، كان النّاس يتغنون باللون الأحمر.

سأختم، بفضيحة ما فعلته تلك السَّياسات بعقول النّاس، وهي واقعة وليست حديث قصاصين، كان صاحب دكان بالبصرة، بشرته تميل إلى الاحمرار، فأُتهم أنه مِن التنظيم الشّيوعيّ، بسب بعض زبائنه المنتظمين، والرجل كان بسيطاً، ليس له في حزب أو نظرية، فأخذ رجل الأمن يعذبه كي ينتزع منه اعترافاً، ولما عجز، صرخ بوجهه: «كيف أنت مو(ليس) شيوعي ووجهك أحمر جنه(كأنه) وجه خروشوف»! كان نيكيتا خورشوف حينها زعيم الاتحاد السُّوفييتي(1953-1964).

هكذا، لعبت، وما زالت تلعب، بنا الأهواء الحزبيَّة، صناعة هواة السّياسة، فكان يُحبس أو يُعدم مَن ينال صدام بكلمة، واليوم يُسجن مَن يطري اسمه، وكلتا الحالتين وفق المعاملة بشرع «الألوان والألقاب».

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. kadhim mostaf

    منذ 10 شهور

    دمت لما معلما ومؤرخا كل ما تكتبه لما هو ما يخزن في قلوبنا وجوارحنا فشكرا جزيلا

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: براءة نور وتابعه هيثم !!

العمود الثامن: نشيد عالية وأخواتها!!

الذين يتمسحون بأذيال السيستاني

العمود الثامن: ألف حزب وحزب

العمود الثامن: من أين لك هذا ؟

العمود الثامن: في محبة المرأة

 علي حسين أصبح العالم اليوم مسكونًا بشيء اسمه المرأة، فلم يعد من الممكن تشكيل برلمان أو حكومة في أي بقعة من العالم من دون النساء، ذهب العصر الذي كانت تشكو فيه سيمون دو...
علي حسين

قناديل: اليسار الجديد: أصولية عابثة وعُصابٌ جمعي

 لطفية الدليمي تتكرّرُ على مسامعنا كثيراً عبارةٌ قالها (غوبلز) وزير الدعاية النازية: كلّما سمعتُ كلمة (الثقافة) تحسّستُ مسدّسي. اليوم صار كثير ٌ منا يتحسّسُ رائحة أزمة عالمية النطاق كلّما سمع مفردة (الجديد) ملحقةً...
لطفية الدليمي

قناطر: مسلسل معاوية... جرُّ القناعات الى مسلخ الأوهام

طالب عبد العزيز مع أنَّ كلَّ تعريف للتأريخ يرجع الى وجوب توافر الوثيقة، إذْ لا تأريخ بدون وثيقة، إذْ أنه الأحداث والوقائع التي تقدّمها لنا الوثائق والمصادر، كما تعرف كلمة 'التاريخ' في اللغة العربية...
طالب عبد العزيز

جامعة بغداد، منارة العلم والمعرفة في قلب العراق

محمد الربيعي جامعة بغداد صرح علمي شامخ، واحد ابرز منارات المعرفة في العراق والعالم العربي. تاسست عام 1957، لكن جذورها تمتد الى بدايات القرن العشرين مع تاسيس كليات الحقوق والطب والهندسة. لعبت الجامعة دورا...
د. محمد الربيعي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram