TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > كلام غير عادي: وَصْفات سرديّة

كلام غير عادي: وَصْفات سرديّة

نشر في: 7 مايو, 2024: 09:48 م

 حيدر المحسن

زرتُ بيروت وشاهدت البحر. كنت رأيته مرّات في السابق، ولا أعرف السّبب الذي جعلني أراه الآن في غبار مرمريّ فاتر كما يحدث لنا في الحلم. المياه شديدة الهدوء، مفضّضة كأنها قدّت من زئبق، والرمل والماء يتشبّعان بوهج الشّمس.

كنت أجلس على الشّاطئ منذ الغُبشة حتى آخر المساء، وفي الليل أرقبه من شرفة الفندق. في النوم يهتزّ فراشي على الموج ويدور البحر في دمي، ثم أفزّ من نومي وأجد ذراعيّ ممدّدتين كما في عمليّة الغوص أو السّباحة في الأعماق. تكرّر هذا الأمر معي كلّ يوم، ولمدة أسبوع، وأكثر. وفي محاولة للبرء من هذه العادة، قطعتُ سفرتي إلى لبنان وعدتُ إلى بغداد، محلّ سكني. لم تقدّم لي العلاج بلدة الرّشيد، وكان أن ازداد توقي إلى البحر، إلى روائحه العفنة، إلى أمواجه التي تموت وتحيا وتموت. ما الحلّ؟

شددتُ الرّحال إلى (العمارة)، مدينتي. في بساتينها تهبّ الرّياح رخيّة مثلما في الجنة، وكنت أتجوّل في الفجر وأسمع الأمواج تغسل صخور البحر وشذى الملح يفغم الهواء، وأتملّى خطوط يدي وأرى الأمواج تندفع فيها وتتكسر على شاطئي. ما الذي جرى لي؟ النّخل وأمواج السّعف الخضراء صارت تدنيني من البحر أكثر وتزيد من لوعتي، والبحر يغور فيّ، يشارفني. أنام، وأرى في الحلم القمر يتبلّل في البحر فتبدو هالته ناراً مقدّسة مثلّثة الألوان. ما الحلّ؟

كتبت، نوعًا من العلاج لحالتي الغريبة، بيَدٍ ساخنة وفي أقلّ من أسبوع، هذه الوصفات على صفحة واحدة، هي صفحة البحر. ربما كان أدبنا القصصيّ كلّه وصفة سرديّة نعوّض فيها توقنا الشّديد وحنيننا إلى الحياة، ذلك أنها تهرب منّا في كلّ لحظة، وتفرّ.

... وسرعان ما هوت بنا العاصفةُ الهوجاء إلى عمق عشرة آلاف قامة إلى القرار ورأينا الموت في هيئة سمكة قرشٍ تقرأ في كتابٍ أسماءَنا بحروف مائيّة مصوِّتة غريبة

*

... لكنّ البطل منّا في السباحة سرعان ما انماثت جرأتُه وهو يرى الموج مثل ثيران هائجة، والعاصف يسوطها

*

... بينا يجري الشّراع بلطف أمام الرّيح اكتست الأمواجُ لوناً رصاصياً وشابهت الدّروع

*

... وهبطنا إلى العنابر وكنّا نخوض وسط الأسلحة والدّم الأسود بعد أن رمينا جميعَ القتلى طعاماً للأسماك، ثمّ حرّرنا الخيول وتوجّهتُ مباشرةً عند ذاك إلى الربّان الجبان الذي توارى خلف الصّناديق. صحتُ به:

"لا يليقُ بك أن تقفَ عاطلاً عن القتال وأنت كامل السّلاح".

وضربتُ عنقه فتمرّغ رأسُه في قذارة العنبر بينما كان لا يزال يهذي حائراً في الجواب

*

... ثم اختار الرّجلُ الشّرفةَ يتطلع إلى البحر لواذاً من زوجته التي تُعْمِلُ في زينتها منذ ساعةٍ، وأكثر. وكانت الرّيحُ طليقة تنفخ نايها، والزّوج يحسبُ عدد الأشرعة التي تتدحرجُ إلى عرض البحر وتغوص على غير هدىً

*

... ورأيتُ الحربةَ تستقرّ في كبدي، أسفل القلب مباشرة والدم الأسود يتدفق من جرحي المؤلم، وتشبّثتُ بعارضة الدّوقل بشدّة كي أتجنّب سهام الصّفوف الأولى، وكانت مراكب العدوّ تمرق أمامي مسرعة. واهاً لي وواهاً لي ثم واهاً... فما سيجري عليّ لا أستطيع احتماله. مَنْ لي بكأسي المرصّعة بالذهب تسقيني بها زوجتي الجميلة شراب الجعة أطفئ به نيران ظمئي الشّديد، وأذوق بطعم شفاهها الشّفاء على الفور

*

... وبأقدامٍ عارية كانت الفتيات يرقصنَ على الشّاطئ على موسيقى النّاي للحبّ والوفاء، وكانت السّفينة تغادر، والغسق يُغرق وجه الأفق. لكنّ الحبّ ومشاريعه المزمعة أضحت بعدئذ رماداً حين غاض الحبّ من قلوب البحارة عندما امتصّت نساء الجزر عسلَ فحولتهم، وكانت الأجمل بينهن تعزف على الكيتار، تغني: "كي تتخفّفوا أيها الشّبّان من الأحجار الثّقال. أيها الشّبان". أيتها الفتيات منكودات الحظّ، لا تنتظرن شباباً ينامون الآن في أحضان عاهرات الموانئ

*

... وكان الهرّ ذو الوبر الرّماديّ النّظيف يلحسُ كفَّ حبيبتي، وتوهّجت النّار بشدّةٍ حين ضربَ الموجُ بقوّة جدار القمَرة الوضيئة، وماء الهرّ

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: في محبة فيروز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

 علي حسين لا احد في بلاد الرافدين يعرف لماذا تُصرف اموال طائلة على جيوش الكترونية هدفها الأول والأخير اشعال الحرائق .. ولا أحد بالتأكيد يعرف متى تنتهي حقبة اللاعبين على الحبال في فضاء...
علي حسين

باليت المدى: جوهرة بلفدير

 ستار كاووش رغمَ أن تذاكر الدخول الى متحف بلفدير قد نفدت لهذا اليوم، لكن مازال هناك صف طويل جداً وقف فيه الناس منتظرين شراء التذاكر، وبعد أن إستفسرتُ عن ذلك، عرفتُ بأن هؤلاء...
ستار كاووش

التعداد السكاني العام في العراق: تعزيز الوعي والتذكير بالمسؤولية الاجتماعية

عبد المجيد صلاح داود التعداد السكاني مسؤولية اجتماعية ينبغي إبداء الاهتمام به وتشجيع كافة المؤسسات الاجتماعية للإسهام في إنجاح هذا المشروع المهم, إذ لا تنمية من دون تعداد سكاني؛يُقبل العراق بعد ايام قليلة على...
عبد المجيد صلاح داود

العلاقات الدولية بين العراق والاتحاد الأوروبي مابين (2003-2025)

بيير جان لويزارد* ترجمة: عدوية الهلالي بعد ثمان سنوات من الحرب ضد جمهورية إيران الإسلامية (1980-1988)، وجد العراق نفسه مفلساً مالياً ومثقلاً بالديون لأجيال عديدة.وكان هناك آنذاك تقارب بين طموحات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي....
بيير جان لويزارد
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram