اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > حياةٌ بمُمْكنات لانهائية..حوارٌ مع (بورخس) في مكتبته البابلية

حياةٌ بمُمْكنات لانهائية..حوارٌ مع (بورخس) في مكتبته البابلية

نشر في: 7 مايو, 2024: 09:45 م

فلاح حكمت اسحق

- أهلاً سيّدتي السكرتيرة

- أهلاً بك أستاذ (كلكامش)

- أظنني جئتُ في الموعد

- نعم تماماً. الآن يمكنك أن تدخل لملاقاة الاستاذ. إنّه في انتظارك

تفتح السكرتيرة الباب. يبدو (بورخس) جالساً في زاوية بعيدة

- مرحباً أستاذ. هاهو السيد(كلكامش) الذي أردتَ لقاءه

- أهلاً سيّد (كلكامش). كنت أودُّ أن تكون (كلكامش) الحقيقي الذي قرأت عنه في الملحمة الرافدينية الخالدة؛ لكنّ هذا لا يعني أنني لا أرغبُ بلقائك. لو لم أرغب بلقائك لما طلبتُ من سكرتيرتي ترتيب موعد لي معك

- تفضّل أستاذ

- قالت لي السكرتيرة أنك كتبتَ في رسالتك الالكترونية لها أنّ حكاية(مكتبة بابل) التي نشرتُها قبل نصف قرن تصلحُ أن تكون مادة أدبية يدرُسُها طلبة فلسفة العلوم وليست وقفاً على طلبة الادب ومحبّي التاريخ والفلسفة. أنا في حقيقة الامر لا تعنيني المقاربة التأويلية. للقارئ حقٌّ مطلق في اختيار القراءة التأويلية التي يرغب فيها لأي نصّ أدبي. قل لي أولاً ما الذي جذبك إلى هذا النص؟ ولماذا تراه يصلح نصاً يدرّسُ في فلسفة العلوم؟

- كلّما قرأتُ لك نصاً سيدّ بورخس تخيّلتك دماغاً بشرياً بنصفيه الخالدين، من غير جسد بشري، وهو ينثرُ الافكار نثراً. أنت مثالٌ حيّ للكتابة التي تتأسّسُ على أفكار خالصة من غير مراوغات بشرية تفرضها طبيعة الحياة وصراعاتها

- إسمعني جيداً سيد كلكامش. كنْ واضحاً، مباشراً في أفكارك ولاتراوغ. هذا بعضُ ماتعلّمته من مصاحبتي الطويلة للفلاسفة العظام. أنت تريدُ القول أنّ غياب المشهد البصري من حياتي جعل مني حالة فريدة (ربما شاذة لو أردت) في الكتابة.عندما يغيب المشهد البصري من حياة الانسان ماذا بمستطاعه أن يفعل؟ أن يلجأ للأفكار. هذا صحيح؛ لكن هذا اللجوء للأفكار ليس مهرباً متاحاً لمن أعوزته القدرة البصرية. ربما أنا أرى الامور بمنظور آخر. هل فكّرتً يوماً أنّ قدراتنا الحسية المتاحة لنا ربما كانت سبباً في إغراقنا بسيل لا ينقطع من الاحساسات الاولية التي قد تصيبُ أدمغتنا بالضجر واللامبالاة وفقدان حسّ الدهشة؟ أنا أرى غياب قدرة حسية ما سبباً في تنشيط قدرات ذهنية مخبوءة في دواخل أدمغتنا، مركونة لوقت الحاجة. أظنّ أنّ هذه القدرة المخبوءة لو إستطاع المرء الوصول إليها من غير أن تكون تعويضاً عن قدرة حسية معطوبة فحينئذ سيكون المرء رائياً حقيقياً. سيكون أقرب لمعرفة ما يجول بعقل الاله.

- معرفة مايجول بعقل الاله؟ هل سمعتَ بعبارة (ستيفن هوكنغ) عندما كتب أنّ نظرية كلّ شيء هي مكافئ لمعرفة ما يجول بعقل الاله؟ التعبير الرمزي لها هو معادلة رياضياتية ستحكم سلوك كلّ شيء في الكون.

- سمعت بستيفن هوكنغ؛ لكن دعنا منه الان. قل لي كيف ترى (مكتبة بابل)؟ ما رؤيتك التأويلية لها؟ الكثيرون أسموها كتاب الكون The Book of the Universe

- صحيح. هي كتاب الكون؛ لكنّي أراها أقرب لكتاب العقل

- لماذا؟

- الفكرة الاساسية هي الانماط Patterns الكثيرة المعقّدة التي يمكن الحصول عليها من عناصر أولية بسيطة قليلة. هذا هو جوهر نظرية التعقيد Complexity Theory. أما لماذا أفضّلُ العقل على الكون تأويلاً لمكتبتك البابلية فثمّة سببان:

الاول: الكون يختصُّ باتساعه المادي وكثرة ممكنات التشكّلات المادية فيه. مِنْ جدول مندلييف الدوري الذي يحوي ما يقاربُ المائة وعشرين عنصراً يمكن أن نحصل على ترتيبات كونية لانهائية. العقل، فضلاً عن ممكنات تشكّله اللانهائية فهو ينطوي على خاصية إنبثاقية Emergent: التعقيد الناجم عن ترتيبات لانهائية الاحتمالات لعناصر أولية محدودة يمكن أن يقود إلى انبثاق خواص نوعية فريدة. الوعي Consciousness هو أهمّ هذه الخواص في العقل. يوجد من يظنُّ أنّ الكون يحوي وعياً من شكل خاص يتطلّبُ وسيلة صوفية لبلوغه. هي رؤية ميتافيزيقية مفادها: ليس من تشكّل مادي معقد ناشئ عن مكوّنات جوهرية أولية بسيطة ومحدودة إلّا ويحوز بالضرورة شكلاً من أشكال الوعي

- آسف لمقاطعتك. أظنني فهمت ما ترمي إليه. تريد القول أنّ دماغنا البشري ليس في النهاية سوى أكوام من عناصر أولية قليلة العدد: فسفور، كاربون، حديد، نايتروجين،،، إلخ، ولو أخذنا مقادير مساوية من هذه العناصر لِما هو موجود منها في دماغ أحد الافراد وجمعناها معاً فلن تنشأ لهذه المجموعة خاصية الوعي. الوعي خصيصة نوعية لتعقيد العقل البشري.

- بالضبط تماماً. هذه خاصية نشوئية أو انبثاقية. ربما سيمنحها البعض إحالة لاهوتية وسيرونها بعض صنائع الاله الخالق. لا يهم ذلك. أظنّك سيد بورخس يمكن أن تكون فيزيائياً أو رياضياتياً لامعاً، أو ربما مختصاً بالبيولوجيا التطوّرية

- دعني كما أنا. أقرأ الكتب – يقرؤونها لي بالاصح- في المكتبة التي أعمل أميناً عاماً لها. لا أرتاح لأية وظيفة أخرى. أكمل السبب الثاني من فضلك

- السبب الثاني: اللغة. الكائن البشري كائن لغوي لا يستطيع العيش من غير قدرة تواصلية لغوية لأسباب براغماتية (ضرورات العيش البيولوجي) وأخرى تختصُّ بجوانب عاطفية في حياته. لا تختلف اللغة كثيراً عن أي نسق معقّد. العناصر الاولية لأية لغة هي عدد محدود من حروف ورموز يمكن أن ينشأ عنها أعداد لانهائية من النصوص تمتلك معنى أو لا تمتلكه. المعنى هو الخاصية الانبثاقية في اللغة والتي تشابه الوعي في العقل، أو الوعي الكوني في الكون.

- هل تريد القول أنّ الكائن البشري كائن متطوّر بسبب العقل واللغة؟

- نعم، مع إضافة بسيطة لكنها جوهرية. الكائن البشري عقل ولغة مع كلّ التطوّر المصاحب الممكن لهما على الصعيدين المادي والرمزي. التطوّر البشري في الاساس هو نتاج الارتقاء بالخواص الانبثاقية في كلّ من العقل واللغة.

- أنا منتشٍ الآن. سأدعو سكرتيرتي لتجلب لنا أقداح قهوة ساخنة. آسف، نسيتُ اعتبارات ضيافتك. أخذني التفكير في كلامك بعيداً. هل تقبلُ أن تزورني – لو سمحت- يوماً في الاسبوع؟ إختره أنت

- أشكرُ لطفك الجم سيد بورخس

- هل فكّرت من قبلُ أنّ هذه الخيارات اللانهائية المتاحة لنا ستجعل منّا محض بشر ينتقون ما يريدون من أدمغتهم كما لو كانوا يختارون طعاماً من صنوف كثيرة من الاطعمة في سوبر ماركت؟ لو كان الامر كذلك لماذا لم يكن كلّ البشر عباقرة مثل شكسبير أو كانْتْ أو آينشتاين مثلاً؟ ثمّ هل فكّرت بموضوعة الارادة الحرّة والحتمية؟ كيف يمكن مناغمة هذه الموضوعة الفلسفية مع كوننا محض بشر نختار السلوك الذي نريد؟

- الإمكانية المبدئية للحدوث غيرُ الاستطاعة على الاتيان بفعل ما. أن تستطيع – من حيث المبدأ - أن تكون عبقرياً أمرٌ يختلف عن إستطاعتك على الاتيان بفعل عبقري. يبدو أنّ الاله لم يشأ أن يجعلنا متبطّلين خوف أن يقتلنا الضجر؛ فعمد إلى إقران كلّ فعل بشري خلّاق بجهد يناظر هذا الفعل. ليست ثمّة وليمة مجانية في الكون: هكذا يعبّر الكوسمولوجيون عن هذه الحقيقة.

- هذا يعني أنّ السيمفونية الخامسة لبيتهوفن – مثلاً – كانت مسطورة في كتاب الكون الخالد الذي صمّمه الاله ومهرَهُ بتوقيعه، وكلّ ما فعله بيتهوفن أنه استطاع بلوغ هذه السمفونية في كتاب الكون قبل غيره.

- نعم. هل ترى هذا غريباً؟ أنت في مكتبتك البابلية ألم تقل أنّ كلّ الكتب الممكنة – ذوات المعنى أو من غير معنى – موجودة في المكتبة؟ كلّ ما علينا فعله هو إمتلاك القدرة والوسيلة لبلوغ الكتاب الذي نريد. هذا هو جوهر الفعل الخلّاق

- ربّما لهذا قيل في بعض النصوص الانجيلية أنّ الإله خلق الانسان على صورته. الانسان إله مصغّر لأنه بممكنات لانهائية

- هنا المعضلة!!. الممكنات اللانهائية لا تعني أننا في حاجة لها. الاكثر غرابة – ربما – هو أنّ الممكنات اللانهائية قد تكون سبباً في شقائنا. هناك محدودية وجودية أولية لا يمكن تجاوزها أو التفلّت منها: لسنا في حاجة إلى توظيف كلّ الممكنات في حياتنا، ولن يسعنا ذلك حتى لو أردنا. لن نعيش زمناً يكفينا لتوظيف كلّ هذه الممكنات، ثمّ قد تكون النواتج مؤذية لنا أو لغيرنا.

دخلت السكرتيرة بالقهوة

- تناولْ قهوتك سيّد كلكامش.

بعد بضع دقائق إستأنف السيد بورخس حديثه:

- أراك تحكي بلغة القانون الكوني. هل من قانون يحكمُ المحدودية الوجودية التي حكيت عنها في عباراتك الاخيرة؟

- نعم. هو قانون المجاوزة (التعالي Transcendence بالمفردات الكانتية). عندما تحوز قدرة ما، أو تحقق إنجازاً ما فسرعان ما ستغادرهما نحو تطلعات جديدة. تخيّلْ مثلاً أنّ جائعاً ظلّ يحلم بقطعة لحم كبيرة، ثمّ جعلتَهُ يأكل قطعة كبيرة من اللحم كلّ يومٍ لسنة كاملة، فكيف سيكون شعوره في نهاية السنة؟ أظنّه سيعاف اللحم تماماً ويصبح من غلاة النباتيين. الآلهة (أو القوة الطبيعية الكونية) تعمّدت تصميمنا بهذه الشاكلة. ثمّة حدود طبيعية لما نأكل أو نشربُ أو نمارسُ الحب أو نركض؛لكنّ الغريب أنّ الالهة تركت القدرات العقلية غير خاضعة لهذا القانون. أرادتْنا الآلهة عمالقة في العقل ومتواضعين في قدراتنا الجسدية.

- ألا ترى في هذا الامر مدعاة للقنوط واليأس الوجودي؟

- لا. أراه نوعاً من العدمية المنتجة

- عدمية منتجة؟ ربما حينها سيتزاوج الحس الابيقوري فينا مع لمسة رواقية منعشة. حينها لن يظلّ معنى للخسارة فيما فاتنا أو للفوز الذي ينتظرنا. سينكسرُ فعل الانتظار ولن يعود له معنى حقيقي

- تظلّ بورخس الرائع الذي يتعاملُ مع الكلمات بمقدرة ساحر

- هل توافقُ على الغداء معي؟ أرى من الافضل أن نكمل حديثنا في البيت على مائدة غداء

- أفضّلُ العشاء سيّد بورخس. هكذا كان يفعل (كانت) عندما كانت مائدة عشائه حافلة بالاصدقاء والافكار وضروب من النبيذ الجيّد. النبيذ الجيد ترياق الافكار الجميلة

- إذن موعدنا اليوم على العشاء في الساعة الثامنة مساء. لاتنسَ أن تحدّثني عن السيّد(كولموغوروف) الذي أوردتَ إسمه في رسالتك إلالكترونية إلى سكرتيرتي

- كولموغوروف يختصُّ بالتعقيد الاحتسابي Computational Complexity. عندما تتعشّق الافكار العلمية المدهشة مع العقل الادبي الثري فستكون النتيجة بهجة متفجّرة

- لا تنسَ أن تكتب عنوان منزلي عند مرورك بالسكرتيرة. أبهجتني سيّد كلكامش. صنعت يومي(رغم أنني قلّما أقولّ هذه العبارة ولا أحبها).

- شكراً لك سيّد يورخس.

مضى كلكامش نحو باب المكتبة، وعندما همّ بفتحه ناداه بورخس بصوت عال:

- نسيتُ سيّد كلكامش. أي نوعٍ من النبيذ تفضّلُ على العشاء؟

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram