غالب حسن الشابندر
كان غرامشي (1891 ــ 1937) من اساطين المفكرين الماركسيين الايطاليين، سكرتير الحزب الشيوعي الايطالي، يكتب وهو نزيل السجن الفاشي ما أُثر عنه تلك الثيمة الجميلة، (يأس العقل وتفاؤل الارادة)، ومراده كما يشرح محبوه ومناصروه،
ان ياس العقل لا يمنع من قوة الارادة، ويبدو انه اطلق هذه الثيمة بعد ما شعر ان هناك واقعا صعبا يحول دون وصول الحزب الشيوعي الايطالي، او الحركة الاشتراكية الايطالية الى مراد الجماهير، مما يولد احباطا مدمِّرا لدى قوى التغيير...
هكذا فهمت (ثيمة) هذا المفكر الايطالي، اليساري الى حد النخاع، ولكنه اعلن رغم هذه الحدة العقدية، ان الماركسية ليست بالضرورة ملحدة!
قبل غرامشي كان علي بن ابي طالب عليه السلام قد أمضى هذه القاعدة عمليا، فقد كان سلام الله عليه يائسا من الواقع، العقل يقول استحالة الوصول الى الغاية المثلى التي كان يضمرها علي في نفسه، وهو يقاتل القاسطين والمنافقين والناكثين، ولكنه استمر يكافح وينافح من أجل هدفه، بيد ان عليا ينطلق من فكرة الواجب في حد ذاته بصرف النظر عن النتيجة في الواقع، ونظرية الواجب في حد ذاته التي تمسَّك بها الفيلسوف الالماني (كانط) تشكل المعادل الموضوعي ــ وإن من بعيد ــ لمشروع ابراء الذمة في المعتقد الاسلامي.
ليس هناك بصيص أمل...
اتكلم عن وضع الشيعة في العالم...
السياسي والاقتصادي والاجتماعي بشكل عام، هناك شبح جغرافية شيعية بعد أن كانت واقعا حيا ينبض بالامل، ولم تكن فكرة خطر (هلال شيعي) بعيدة عن الواقع، فهذا الهلال نفط وبشر وماء وقيم، متواصل المسافة بحيوية الجيرة والتثاقف المذهبي والديني وحتى العشيري الى حد ما، ولم يكن خالد بن سلطان بن عبد العزيز ساذجا عندما كتب مقاله الشهير في مجلة امريكية مشهورة عن مشروع (هلال شيعي عربي) مؤيداً ومناصرا، أي هلال شيعي عربي بعيد عن ايران، وكانت لفتة الاستاذ نبيه بري دقيقة، عندما طرح تسميته الجغرافية الجميلة: (هلال شيعي عربي في قمر سني عربي)!
هذه الجغرافية اليوم ممزًّقة مرتبكة، تعاني من شحة ماء، ونضوب شبابي، وهجرة عقول، وحروب داخلية، وارتباك مفاهيمي، يتراوح بين شدة ولين...
فضلا عن صراعات شيعية/ شيعية، منها ظاهر علني، ومنها مستتر، ومنها مكتوم لضرورة طارئة، والَّا هي على اشد ما يكون من بداهة الاستمرار، ومثل ذلك حزب الله وحركة أمل...
لا أمل...
البوار آت...
هذا هو الواقع...
ولكن نحن نؤمن بان الواجب بحد ذاته فريضة لا تتوقف على الواقع من حيث الانجاز والعمل، مثلنا علي بن ابي طالب عليه السلام، كان يائسا من الواقع ولكنه يعمل ويعمل، كان يفكر ويخطب ويحاور ويتحرك، رغم مرارة الواقع.
2
التحديات كثيرة، ولكن التحدي القريب جدا، والمخيف أكثر من غيره مستقبل المرجعية الدينية، ننطلق من الواقع ايضا، وذوو الحجا من أهل الايمان يقولون بذلك، فإن النجف تخلو من مراجع على وزن الآباء الاولين، وانا اقول ذلك لان من بقي منهم على قيد الحياة يشارفون على حافَّة الزمن المُغيِّب اليومَ أو غدا، والمرجعية في ايران تعرَّضت لنكبة الاحتكار السياسي باسم ولاية الفقيه، فاهينت وارهقت، وتمادى الاسلام السياسي في تغليب السياسي على العلمي والفقاهتي، وفيما يرحل المرشد ستضطرب الساحة هناك، وتنتصر الفوضى على الاستقرار في خصوص ما نحن فيه، اي مستقبل المرجعية الدينية الشيعية.
لست من دعاة ان المرجعية مصونة بعهدة الله، اقصد المرجعية بتفصيلها المعروف، إنما هي صناعة بشرية، تنصيب بشري من حيث التعيين لا من حيث الهوية والمباديء، المرجع لا يعينه الله من الناحية الفعلية، تعيِّنه ظروف موضوعية وسياقات سياسية واجتماعية وحتى عُرفية، فالسيد ـ تقريبا ــ مقدَّم على الشيخ، وذوو النسب التاريخي ـ غالبا ــ ما يكون مقدَّما على ذوي النسب المغمور، وتلميذ الاعلم ـ في حالات كثيرة ـ مقدَّم على تلميذ الاقل علما رغم مفارقات الواقع في أحيان كثيرة، وربما حتى الشكل والمظهر لهما تاثير إيجابا وسلبا، وربما الماكنة الاعلامية والتسويقية ذات أثر يفوق أثر فحولة البحث الخارج، ورصانة الاستنباط والاستنتاج، وفصاحة الكلام، والقرب أو البعد عن أهل السياسة والنفوذ... كل ذلك يؤثر ويساهم في التعيين، ومن ثم السن الطاعن، له سحر الترجيح بدرجة معهودة.
غياب عينات الخط الاول، خط الآباء... نذير شؤم، تشظي وتناحر، وهاهي الساحة الشيعية العراقية تزخر بمَن يهيء نفسه للمرجعية، كلهم من الخط الثاني...
دون الآباء الاولين..
إذن الفراغ آت...
وليس في البين من يسد هذا الفراغ...
فإن المرجعية في ظروفنا الحالية ليست مجرد رسالة عملية، ليست مجرد اجوبة على اسئلة شرعية، وبث وكلاء تثقيف شرعي هنا وهناك ، بل بفعل ظروف قاهرة، تحوَّلت الى مرجعية موقف سياسي وإن في حدود، وتحولت الى ملاذ انقاذ وطني، وتحوَّلت الى تقرير مصير شعوب وأمم، مضطرة الى ذلك، الظروف اجبرتها، فضلا عن ان ذلك قد يكون من واجبها بعد اغفال!
أي احكام شرعية يريد ان يضطلع بالجواب عليها المرجع الجديد؟ بل قل لي كم هي نسبة المصلين والملتزمين شرعيا في هذه الحقبة المثيرة من تاريخنا المحزن؟