لماذا لا يكون صباحنا فل الفل، ونحن نطل على جسور وأنفاق وشوارع بغداد، وقد ضاقت بمن فيها، وصارت مثل عقد تراكبت حباته، واختلفت ألوانها، وأحجامها، ومدن صنعها، واشتجر شهيقها بزفيرها.. سيارات شلت حركتها، بدون مسافات أمان، أنف هذه دست بذيل تلك، واستحالت لغة الشارع إلى أبواق اختناق، واستنجاد، وضجر، وتعطل مصالح، من جانب، وحيرة وتعطل لغة شرطة المرور، إلا من تعليقات (سبي كرات) سيارات الشرطة المتحركة.. تحرك أبو (السايبة)، تحرك..أبو (الكيا)، من جانب آخر، وأنى لهم الحركة، وقد ضاقت بهم السبل.
لماذا لا يكون مزاجنا عنباً، ونحن نمضي أكثر أوقاتنا في الشارع (نفكر بلي نسينا, وننسى اللي فاكرنا)، ونشاغل عمرنا الضائع بالأوهام بشراء كارت آسيا (كلك)، أو قدح شاي أصفر، أو الإصغاء إلى عدد من التعليقات الساخرة من الحال، أو أي شيء آخر عسى أن يتحرك الشارع بمعجزة وتنزلق عجلات المركبة نحو الهدف، ولكن لا شيء يحدث.. لا أحد يجيء،فالمعنيون بالأمر، شأنهم شأن غيرهم من المسؤولين في المركب العراقي (كثرة ملاليحه وغرك)، لا خطط، ولا متابعة، ولا دراسة تواكب حال الشارع، ومساحته القادرة على استيعاب أعداد تقريبية من السيارات، كما يحدث في الدول المتمدنة، التي تحترم نفسها، وتحترم شعوبها، وتحترم الزمن، وما يشكله في بناء اقتصاد البلدان.
لماذا لا تكون نهاراتنا مئة فل وعشرة، ونحن نتعثر في طرقات تكسرت عظام وجهها، وتحولت إلى برك آسنة، يتوج الطين أخاديدها، بسبب مزحة مطر عابرة، بينما انشغل العمال يجملون جسر الجمهورية بالقناديل، كجزء من خطة إنارة جسور العاصمة، حتى (ترقص الأضواء.. كالأقمار في نهر)، أكيد المزاج عنب العنب، لشدة جمال ورومانسية المنظر..ولكن أين الكهرباء التي ستنور بها قناديل هذه الجسور، وستائر الظلام تستدل على بغداد بعد أن يجن الليل بوقت قليل، ويستحيل الغناء تحت ضوء القناديل.
لماذا لا يكون المزاج عنباً والشارع صار مهرجاناً لكل شيء يشبه كثيرا أوبريت (الليلة الكبيرة) بيع وشراء لكل البضائع:جديد و(بالة).. أغاني أعراس ومآتم هي نفسها على ذات الإيقاع والكلمات بتحوير بسيط حتى لكأنك تكاد تطرب أو يهتز لك رأس، فتصعقك مفردة تقضي على المعنى، وتهيمن عليك حالة مختلفة تتناقض تماما مع الإحساس الأول.. طبل وزمر.. إعلانات واقعية ووهمية.. يافطات وصور كثيرة، وأقوال وحكم تحض على الفضيلة، وتحرم الرذيلة، لكن الشارع في موال آخر، لا يدري عنها شيئا.. شباب، ورجال تجاوزوا العمر الافتراضي، لكنهم يحترفون (الحرشة)، ومتابعة النساء، حتى يخيل للمرأة أنها تمشي عارية، أو أنها أجمل سيدات العالم، من فرط فجاجة وجرأة التعليقات، التي تصل أحيانا إلى استخدام الأيدي، أو الضرب بالكتف، وأشياء أخرى.. بعض يقال، وكثير مالا يقال.
وصباحنا فل.. مزاجنا عنب!!