لطفية الدليمي
مذيعة مبتدئة في شبكة الاعلام العراقي حديثة التشكيل، وقفت بعد بضعة أشهر من الغزو الامريكي عام 2003 أمام منطقة فسيحة في شارع الجمهورية لتخبرنا أنّ هذا المكان سيشهدُ إنشاء أوّل ناطحة سحاب عراقية. كنّا حينذاك قابلين لتصديق مثل تلك الاقوال؛ لكنّ الايام اللاحقة أثبتت لنا خطلها كلّها.
القوم- أعني الساسة وصانعي القرارات - لا يقولون إلّا لغواً. تحدّثوا عن منجزات كثيرة حتى لكأنّ العراق سيكون جنّة إلدورادو العجائبية. عرفنا بعدها أنّ هذه الاقاويل ليست سوى أكاذيب يطلقها الساسة من غير رادع بعدما أمِنوا أنّ الناس ستنسى كلّ ما يقال. ساسة من غير حساب قاسٍ ومحاكمة مشدّدة لكلّ أقوالهم ووعودهم هم أسوَأ الساسة؛ لأنّهم سيتغوّلون ويستمرئون الكذب والالتفاف والمراوغة وليّ عنق الحقائق. إنّها بعضُ مسؤولية الناس وممثليهم: أن لا يقبلوا بهذه الوصفة المشوّهة.
قرأنا مؤخّراً أنّ العراق سيدشّنُ مصنعاً لصناعة السيارات الكهربائية مع أواخر عام 2024. خِبْرَتُنا تقول لنا هذه كذبة صفيقة من أكاذيب سمعناها واعتدناها. سنفترض -من باب مساءلة الموضوع ووضعه موضع التمحيص- أنّ الامر ممكن وسيتحقق. أول سؤال يجب مساءلته هو: كيف تَصنعُ سيارات كهربائية في بلد يعاني من ندرة الكهرباء منذ 2003؟ هل هذا الامر منطقي؟ أليس من المفترض حلّ معضلة الكهرباء المزمنة قبل الشروع في مشروع كهذا؟ أليس من الاوجب عتقُ رقاب العراقيين من استغلال أصحاب المولّدات الاهلية الذين أمسكوا بخناق المواطنين مستغلّين حاجة الناس وقلّة حيلتهم وخطل السياسات الحكومية فيما يخصّ قطاع الطاقة؟
يتعامل الساسة العراقيون بمنطق(العفرتة) مع موضوعات ستراتيجية في الاقتصاد والعلوم والتقنية. العراق مكتظّ بكلّ أنواع السيارات الحديثة حتى ضاقت به شوارعه التي لم تُحدّثْ منذ ثمانينات القرن الماضي. هل سنضيف سيارات جديدة لمئات الالوف من السيارات؟ هل يريدون تنظيف بيئة العراق من الدخان والملوثات؟ هل صار الساسة العراقيون – على غفلة منا- رحماء بالبيئة؟ إذن فليحلّوا معضلة الكهرباء وينقذوا البشر من الاعباء المالية والصحية للمولّدات الاهلية التي صارت عنواناً للرثاثة والتخلف الاقتصادي والحضاري. ما حلّت المولدات الاهلية للكهرباء إلا وحلّ السقم والتخلف معها.
أمْرُ السيارات الكهربائية العراقية يشبه أمر التصريح بقرب إنشاء مفاعل نووي عراقي لإنتاج الكهرباء. معروفٌ أنّ المفاعل النووي يتكلّفُ قرابة السبعة مليارات من الدولارات؛ فلماذا تلجأ للطاقة النووية لإنتاج الكهرباء وأنت بلد نفطي؟ ما هذه الاحجية السمجة؟ ربما سنسمعُ أحدهم يقول أنّ الطاقة النووية قاطرة تقنية تجرّ وراءها سلسلة من التقنيات المكمّلة. سمعنا مثل هذا الكلام في عهد سابق ورأينا النتيجة. نحن لسنا في حاجة إلى الطاقة النووية. أبعِدوها جانباً رعاكم الله. ثم أليس من المفترض في بلد يسعى لاستثمار الطاقات النظيفة والمتجددة أن يوظّف طاقته الشمسية الهائلة؟ يمكن -لو خلُصت النوايا- تشجيع المواطنين على استخدام الالواح الشمسية مصدراً للطاقة. نترك الوفير المجاني من أشعة شمسية ونلهث وراء طاقة مكلفة ولها مخاطر بيئية عديدة؟ أين العقلنة السياسية والاقتصادية في كل هذا؟ أما أمرُ المترو فقد سمعنا عنه الكثير مثلما سمعنا قبله عن قطارات سريعة ومعلّقة ستنفذها شركات عالمية عملاقة.
عندما سمعتُ بأمر المصنع العراقي للسيارات الكهربائية حضرت ببالي حقيقة مؤلمة: يقالُ أنّ الاصناف الممتازة من الرز العنبر والرقّي والتمور والجلود تُصدّرُ إلى الخارج ولا يبقى للعراقي سوى الاصناف الاقل جودة. ربما يريد المخططون (الستراتيجيون!!) العراقيون تصدير السيارات الكهربائية العراقية للخارج. لكن هل ستكون منافسة في السوق العالمية؟ هل سيترك الزبائن سيارات تسلا والسيارات الصينية والكورية والالمانية الممتازة طلباً للسيارات العراقية؟ ربما تكون السيارة العراقية صفقة مع الصينيين؛ لكن لماذا نتوقعُ أن يكون سعرها ارخص كثيراً من سعر نظيرتها الصينية؟
لا تصنع كلّ البلدان المتقدّمة سيارات كهربائية. الدنمارك وهولندا وبلجيكا والنمسا أمثلة شاخصة. الناتج القومي السنوي لكلّ منها يتجاوز بضع مئات المليارات من اليوروهات؛ وبرغم هذا فهي لا تصنع سيارات كهربائية، بل وحتى هي لا تصنع حواسيب محمولة أو هواتف ذكية. لماذا؟ لأنّ تكلفة صناعتها في بلدانها لن تكون تنافسية بما يكفي. الصحيح هو أن نطوّر مواردنا المميزة لنا ونجعلها استثمارات مربحة قبل التفكير في صناعات مستوردة. الدنمارك مثلاً بلد إقتصاده زراعي الطابع ومتقدّم في الوقت ذاته.
أخشى ما أخشاه أن يكون المشروع تحت عنوان الاستثمار. عندما تسمعُ مفردة الاستثمار في العراق فعليك أن تتوقّع فساداً مستشرياً يزكم الانوف. الاستثمار عندنا يختلف عن الاستثمار في العالم. يأتي المستثمر (الحافي) من كل شيء فتمنحه أرضاً مجانية وقروضاً بنكية مليارية من مصارف عراقية، وتتيحُ له التصرّف الحر بكل العوائد المترتّبة على هذا الاستثمار الوقح. مشاريعُ الاسكان التي أعشت أبصارنا هي مثال واحد فحسب. المستثمر بالطبع هو واجهة لجهات عراقية تريد السرقة و الاستيلاء على المال العام تحت عناوين خادعة عنوانها الاستثمار.
الارتقاء بالاقتصاد العراقي -سواء في جوانبه التقليدية أو المتقدمة- مهمّة ينهض بها بنّاؤون يحبون العراق، لا مقاولو (تفليش) كما وصف سياسي عراقي رهط السياسيين العراقيين بعد عام 2003 و كان محقّاً في وصفه.
التقنية الكلاسيكية والمتقدمة لا تأتي عبثاً بين يوم وليلة، وهي ليست قراراً سياسياً فوقياً. ثمّة في أدبيات التنمية البشرية والاقتصادية ما يسمّى (الانساق الثقافية Cultural Systems) التي يجب أن تتناغم مع متطلبات التقنيات المتقدمة. كيف لمجتمع أن يكون بيئة حاضنة لهذه التقنيات وفيه أمية متفشية بنسبة خطيرة، ونكوصٌ في الرؤية الفلسفية والعقل النقدي، وأصولية دوغمائية بشتى الالوان والصنوف، وقبل هذا هو مجتمع يستوردُ كلّ شيء، ونُظُمُ التعليم فيه متهالكة لا تقدّم تعليماً منتجاً؟ فكّروا معي في هذه المفارقة: نحن نستورد كل شيء ونريد في الوقت ذاته إنتاج سيارات كهربائية للسوق المحلية او للتصدير. لا فرق. قبل أن تصنعوا سيارات كهربائية قلّلوا مناسيب الاستيراد وشجّعوا تكوّين الكوادر الفنية والهندسية. كثيرون سيقولون لنا: لماذا أنتم متشائمون؟ خطوة أولى خيرٌ من مراوحة مزمنة في المكان. لهؤلاء أقول: لا نريد خداعاً لأنفسنا ولا آمالاً كاذبة واهية نتعلّق بها. لم يعُد في مقدورنا تحمّل الكذب والمناورة. الزمن ليس بضاعة مجانية يتلهّى بها مَنْ لا يحسبون حساب الزمن والمال المسفوحيّن بمجانية قاتلة.
التقنيات المتقدمة ليست لعبة يتسلّى بها ساسة فاشلون لم يجيدوا حلّ معضلة واحدة من معضلات العراق المتفاقمة، والتي ستكبر مع الايام القادمة إلى حدود خطيرة يصبح معها العيش في العراق ملاعبة يومية مع الموت.