د. فاطمة الثابت
"ماذا يعني حين يكون للمرء عينان في عالمٍ يكون فيه الآخرون جميعاً عمياناً، لستُ ملكةً هنا، كلا، أنا ببساطة الإنسانة التي وُلدتْ كي ترى هذا الرعب، يمكنكم أن تحسوا به، لكنني أحسه وأراه معاً"
جوزيه ساراماغو (رواية العمى )
في متاهات الواقع المضطرب وتسارع وتيرة الأحداث من حولنا، نحاول أن نجتاز تضاريس الموضوعات والتحديات الملحة، ولكننا نظل غير مدركين لتداعياتها، تخيل مجتمعًا تتكشف فيه المناقشات، وتشتغل الأحداث، ويتم اتخاذ القرارات، واتخاذ الإجراءات، كل ذلك بينما يظل الأفراد في حالة من السبات المعرفي، وتقاعس الأدراك، هذا هو جوهر السرنمة الجماعية، وهي حالة ينخرط فيها الأفراد في عدد لا يحصى من المواضيع والقضايا دون أن يدركوا حقًا أهميتها أو تداعياتها فهي التفاعل والسير مع وتيرة الأحداث الاجتماعية دون وعي، ومن المناقشات السياسية إلى الخطاب الثقافي، يلوح في الأفق شبح المشاركة اللاواعية، الأمر الذي يلقي بظلاله على النفس الجماعية.
ويؤكد عالم الأجتماع العراقي الدكتور علي الوردي " ان الحياة الاجتماعية كلها عبارة عن شبكة من التنويم المتبادل، حيث ينوم الناس بعضهم بعضاً ويوحي بعضهم إلى بعض دون أن يشعروا، والتنويم الاجتماعي له أثر بالغ في شل التفكير، فالذي يقع تحت وطأته لا يستطيع ان يفكر الا في حدود ما يملي عليه الايحاء التنويمي العام، وأنت لا تستطيع أن تجادله أو تباحثه مهما يكن دليلك إليه صارخا، ان إطاره العقلي مغلق بشكل لا ينفذ إليه اي برهان مهما كان، يصح القول ان التنويم الاجتماعي موجود أينما وجد الانسان، ولا بد لكل انسان ان يقع تحت وطأته قليلا او كثيرا، وكلما ازدادت ثقافة الناس وتفتحت عقولهم ضعف فيهم اثر التنويم وقلت مخاطره".
في سياق المجتمع العراقي، الذي يتصارع مع عدد لا يحصى من التحديات الداخلية والخارجية، فإن ظاهرة السرنمة الجماعية أكثر تعقيداُ من ظاهرة التنويم الاجتماعي حيث تكاد تستفحل في ظل التأثير الرقمي متجسدة في الجري وراء الأيقاع الجمعي، فلم يعد الأيحاء الاجتماعي اللاعب الوحيد في صياغة السلوكيات الجمعية وأنما طريقة التفاعل مع الحدث وتشكيل التصورات الجمعية وخلق ردود فعل غير مسبوقة وتشكيل سلوكيات مركبة تتخذ وتيرة سريعة، ومن ثم تهدأ وتنتهي، وبالتالي تفاقم ذلك يسبب أزمة شاملة ومتعددة الأبعاد وغير مفهومة، نظراً لسيادة نمط خطي من السلوك الغير مستقر والغير قادر على تصور تعقيدات الظواهر، مما يزيد في الولوج بالعمى وسوء الفهم في وسط خلفية من الموروثات التاريخية، والتوترات الجيوسياسية، والفوارق الاجتماعية والاقتصادية، يتنقل الأفراد في تضاريس الحياة اليومية، وغالبًا ما يكونون غير مدركين للتيارات الأعمق التي تشكل تجاربهم، وسواء كان الأمر يتعلق بترندات الاحداث المحلية، أو الأنخراط والتفاعل مع الأحداث العالمية والقضايا الانسانية بشكل عام، فإن التأثير المنتشر للتأثر الغير واعي يتخلل النسيج المجتمعي، مما يحجب التصورات ويعيق الأدراك الواعي لما يحدث حولنا.
في جوهره مفهوم السرنمة الجماعية بمثابة تذكير بمزالق المشاركة اللاواعية و تعزيز الوعي والحوار، تستطيع المجتمعات تجاوز حدود السبات المعرفي، وتبني إحساس جديد بالقوة والفهم، وبينما نبحر في مشهد التحديات المجتمعية الذي يتطور باستمرار، من خلال تكثيف النداء للاستيقاظ من نشوة السرنمة الجماعية، لشق طريق نحو مستقبل أكثر وعياً...