لطفية الدليمي
سنان أنطون، الروائي العراقي، أستاذ الادب الانكليزي في جامعة نيويورك، يُعتقلُ - مع ثلّة من الطلبة والاساتذة- في حرم الجامعة بعد تصفيد يديه. العساكر الامريكان يجولون ويصولون في حرم الجامعة، بتجهيزاتهم الثقيلة وعصيهم الغليظة، وكأنهم في حيّ من أحياء مانهاتن التي تشيع فيها المخدّرات والجريمة المنظّمة.
يقالُ أنّ سنان أطلق سراحه تمهيداً لعرضه على المحاكمة. سيقال في لائحة الاتهام انه أخلّ بنظام الجامعة والقواعد السلوكية المعمول بها في الاحتجاجات. حصل هذا كله لأنّ سنان وجماعته فضّلوا الدعوة لإبطال الحرب الهمجية المستعرة في غزّة. صار قول (لا للحرب في غزة) جريمة تستوجب العقاب القانوني.
سنان أنطون معروف بمواقفه الواضحة التي لا لبس فيها ولا مداهنة. كتاباته بشأن خطايا الاحتلال الامريكي للعراق تكشف أي نوع من البشر هو. لم يضع في حسبانه تحسّبات مسبقة من أن تؤدّي مواقفه إلى خسارة وظيفته الاكاديمية المرموقة التي هي مطمح كثيرين من الامريكيين قبل غيرهم. المظلوم واحد سواء كان غزاوياً أو عراقياً أو أينما وجدت مظلمة بيّنة في هذا العالم: هذا ما يراه سنان ويؤمن به إيماناً عملياً لا إيمان الشعارات الكاذبة.
غريبٌ أمر امريكا، وغريبٌ أكثر أمرُ جامعات النخبة فيها. ربما سنعذر السلطات الامريكية الموكل لها أمر حفظ القانون والنظام لو إعتقلت طلاباً جامعيين ندّدوا بالحرب الامريكية في فيتنام في ستينيات القرن الماضي. التسويغ القانوني جاهز. أنت تعارض سياسة بلدك وهو في حالة حرب مع العدو؛ لكن ماذا عن المطالبة بإيقاف المجزرة الغزاوية بكتابة كلمة (لا) على ورقة مستطيلة لا تزيد أبعادها عن متر مربع في أحسن الاحوال؟ هل صارت السلطات الامريكية تخاف حتى حرفيْن يكتبان على لافتة او تنطق بهما حناجر أعياها القعود والعجز والتخاذل ومشاهدة الجثث الغزاوية؟ ثم ألا تدعو الادارة الامريكية ذاتها في خطاباتها المعلنة لوقف المقتلة؟ يبدو أنّ هناك تناقضاً بين المضمر والمعلن في السياسة الامريكية.
جامعات النخبة الامريكية تبدو في موقف أشد غرابة من موقف السياسة الامريكية؛ لكن باتجاه معاكس. كتبتُ في واحدة من مقالاتي السابقة عن رئيسات ثلاث لجامعات أمريكية تتبوّأ قمّة الهرم التعليمي والبحثي الجامعي في أمريكا، أستدعين لجلسة إستماع(الاصح جلسة محاكمة) في الكونغرس الامريكي، ثمّ دفعن دفعاً لإعلان إستقالاتهن. كل هذا لأنهنّ سمحن بمظاهرات سلمية في حرم جامعاتهنّ. ماذا يريد الكونغرس منهن؟ يريدهنّ أن يقمعن المظاهرات بوسائل غير مكشوفة أو مفضوحة. العقل الخبيث أعرفُ بمثل هذه الوسائل.
التصوّرات المسبّقة شديدة الخطورة، ولا تتمثّلُ فيها الاعتبارات الاخلاقية في حدودها الدنيا. نتصوّرُ - أو هكذا تصوّرُ لنا مفاهيمنا ومواضعاتنا- أنّ جامعات النخبة هي أماكن حصرية للأثرياء وأولاد الاثرياء، والثري لا يرى في الوجود أبعد من مصالحه الآنية؛ فكيف يُعقلُ أن يخرج أمريكيون أثرياء للمطالبة بإيقاف مجزرة إسرائيلية في رحاب جامعات نخبوية أمريكية؟ نتخيلُ الامور بمقايساتنا المحلية حيث الاثرياء القدماء والجدد منفّذون خلصاء للنصيحة التي تعلّمهم (كُلْ ولا تتكلمْ).
هل صارت أمريكا جمهورية موز؟ لا. حتى اليوم ليست جمهورية موز؛ لكن هناك توجّسات كثيرة من أن تنزلق أمريكا في حرب أهلية جديدة أقسى من الحرب الاهلية السابقة التي جرت وقائعها في ستينيات القرن التاسع عشر. أمريكيون ذوو مكانة أكاديمية رفيعة يتحدّثون عن هذا الاحتمال الخطير.
يذكّرُنا - نحن العراقيين- سنان أنطون بأعطاب كثيرة في نسقنا الاخلاقي. لا يكفي أن تحصل على مُرتّبك الشهري وتترك بلدك يتيه في لجج الاحتمالات القاتلة. هل تظنُّ أنّ نظام الرشوة هذا سيستمرّ إلى الابد؟
من يرَ الخراب والظلم ويسكت عنهما إيثاراً للسلامة وراحة البال هو كائن ناقص التكوين في بُنْيته الاخلاقية، وسيظلّ مثال سنان أنطون يطارده في صحوه ومنامه حتى لو تغافل عن الامر وقمع صوت ضميره، هذا إن بقي له شيء من ضمير.