ثائر صالح
الجزء الرابع
مصائر الرحلة التركية
جمع بارتوك أكثر من 100 من الألحان الشعبية (تُركو) في المناطق التي زارها في جنوب الأناضول وقرب أنقرة سجلها على 64 اسطوانة.
وقد عثر على كنز كبير أثناء لقائه في العثمانية بعلي بكر أوغلو بكر (70 سنة) الذي أسمعه أغان وجد ألحانها مشابهة لأغاني مجرية يعرفها. شرع بارتوك بدراسة المادة التي جمعها فور عودته إلى بودابست، فدون الألحان وحللها وصنفها حسب الألحان إلى مجاميع، ثم بذل جهداً كبيراً لتدوين النصوص بالتركية بمساعدة الموسيقار التركي عدنان سايغون الذي رافقه في رحلته وعلماء مجريين.
لكن تطور الاحداث في تلك الفترة مثل احتلال جيكيا وضم النمسا إلى ألمانيا دفع بارتوك إلى التفكير بالهجرة. وكان يفكر جدياً في العمل في مسح الفولكلور الغنائي في تركيا مقابل توفير معيشته، وطلب من عدنان سايغون التوسط عند معارفه لهذا الغرض دون طائل بسبب تغير الأوضاع الداخلية في تركيا نفسها.
في الختام، هاجر بارتوك إلى الولايات المتحدة خريف 1940 على أمل العودة إلى بلاده بعد الحرب. فعمل في جامعة كولومبيا باحثاً في تحقيق مجموعة من الأغاني الشعبية الصربية والكرواتية وبحث في موضوع الفولكلور الروماني وأنجز مجلدات عن الموسيقى الشعبية الرومانية الغنائية والأدواتية في نهاية 1942 دون أن تنشر، لكنه جهّز محاضرات عنها ألقاها في جامعة هارفارد. وبموازاة ذلك عمل على المادة التركية التي جمعها، وجهّزها للنشر في 1743 دون أن يجد من ينشرها بسبب انعدام الإهتمام بها. وضع بارتوك مسودة كتابه "الموسيقى الفولكلورية التركية من آسيا الصغرى" صيف 1944 في مكتبة جامعة كولومبيا. واستمر بتأليف الأعمال الموسيقية في نفس الوقت، منها الكونشرتو الشهيرة وسوناتا الكمان المنفرد التي ألفها بطلب من عازف الكمان الشهير يهودي مينوهين. غير أن هذا الجهد الاستثنائي الذي بذله بارتوك في البحث وإلقاء المحاضرات أثر على صحته العليلة أصلاً، وترافق ذلك مع الحالة المادية الصعبة التي مرت به بسبب عدم تجديد جامعة كولومبيا عقده، والاهمال الذي واجهه هذا الموسيقار والباحث الإستثنائي، إذ لم يعر له الأمريكان المنشغلون بالحرب الكثير من الاهتمام. توفي بارتوك مديوناً في غرفة إيجار بائسة في نيويورك في 26 أيلول 1945. لم يصدر الكتاب مطبوعاً إلا بعد عقدين من وفاة بارتوك سنة 1945. فقد صدرت الطبعة الإنكليزية في 1976 ثم بالتركية في تركيا سنة 1991، ولم يصدر بالمجرية إلا مؤخرا في 2019.
يستنتج بارتوك في بحثه الطليعي استناداً إلى المادة الشحيحة التي جمعها أن 43% منها يشكّل الطبقة الأقدم والأكثر انسجاماً داخلياً والتي تحمل مزايا السلم الخماسي (البنتاتوني)، وهناك أجزاء من المادة تتشابه بشكل كبير مع الطبقات الأقدم في الفولكلور المجري. وتشير جذور الإثنين إلى أصول مشتركة في أواسط وغرب آسيا حيث عاش أجداد الأتراك والمجريين قبل 1200 - 1500 سنة. ولاحظ بارتوك أن هذه السمات المشتركة لا توجد لدى الشعوب المجاورة.