فابريس بالانش*
ترجمة: عدوية الهلالي
نشهد حالياً جدلاً حاداً في العراق يدعو إلى إنهاء مهمة الأمم المتحدة الموجودة منذ عام 2003 في الإقليم، ولكن هل ستكون هنالك عواقب لانتهاء هذه المهمة على مختلف مكونات المجتمع العراقي؟.. ففي أعقاب التدخل الأميركي، بدأت بعثة الأمم المتحدة المسؤولة عن إعادة إعمار العراق في عام 2003.
إلا أن أهميتها الحالية أصبحت موضع تساؤل، لأن البلاد لم تعد في سياق الخروج من حصار دام اثني عشر عاماً وحرب أهلية، بفضل صادرات المواد الهيدروكربونية، التي تبلغ حوالي 4.3 مليون برميل يوميًا (في عام 2023)، حوالي ثلاثة أرباعها مخصصة للتصدير، إذ تتمتع البلاد الآن بموارد كبيرة وحكومة شرعية لإدارتها. وبالتالي فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو ما إذا كان وجود هذه البعثة لا يزال ضروريا.
علاوة على ذلك، وحتى في المناطق المتضررة بشدة من داعش، مثل الموصل، فإن الأمم المتحدة ليست في الخطوط الأمامية لإعادة الإعمار، والتي تعتمد في المقام الأول على المبادرات الخاصة. على الرغم من أن برامج اليونسكو تشارك في إعادة بناء المعالم التاريخية، إلا أن دور المنظمة ليس حاسما في العملية برمتها. لذا فإن هذه المهمة لم تعد ضرورية. علاوة على ذلك، فهو بالتأكيد يذكر العراقيين بالساعات المظلمة للاحتلال الأمريكي، وفي سياق استعادة السيادة العراقية، سيكون من المناسب أن يتم إلغاؤها. في عام 2017، أعلن العراق الهزيمة الإقليمية لخلافة داعش. وبعد سبع سنوات، عاد تنظيم داعش إلى العمل تحت الأرض مرة أخرى، ويعمل من خلال خلايا نائمة ومجموعات مسلحة في سوريا والعراق. ويقوم المقاتلون بابتزاز التجار والسكان المحليين، مما يسبب خوفًا كبيرًا. وهذا التخوف واضح، والكثيرون مقتنعون بعودة داعش.
والسياق مماثل في سوريا، وخاصة في الرقة ودير الزور،إذ غالبا ما تتعرض قوات سوريا الديمقراطية لهجمات من قبل الجهاديين. لكن الوضع في العراق أصبح تحت السيطرة بشكل أكبر بفضل تدخل التحالف الدولي. وتسلط هجمات التنظيم الإرهابي على سجون في الحسكة في كانون الثاني 2022 وفي الرقة في كانون الأول 2022، الضوء على وجود خلايا نائمة وقدرتها على حشد الدعم المحلي. وتشير المعلومات التي قدمتها أجهزة استخبارات قوات الدفاع والأمن إلى أن داعش يقوم بتجنيد مقاتلين جدد من بين الأشخاص المعوزين أو المحبطين أو المخدرين، في منطقة حيث يتسبب تهريب الكبتاغون في إحداث الفوضى. وبالتالي فإن داعش لا يزال في سوريا، في انتظار فرصة عودة عدم الاستقرار إلى السطح. على سبيل المثال، يمكن لهجوم كبير تشنه تركيا في شمال شرق سوريا أو هجوم للميليشيات الشيعية على دير الزور أن يدفع داعش إلى محاولة إعادة تحرير الجهاديين الأسرى وحشد القبائل العربية التي دعمته بين عامي 2014 و2017. في الواقع، في تشرين الأول عام 2019، وخلال الهجوم التركي في شمال شرق سوريا، رأينا على الفور عودة الجهاديين إلى الظهور. وانتهزوا الفرصة لغزو الريف والتسلل إلى القامشلي وتنظيم هجمات أبرزها بالسيارات المفخخة. ولدى الجماعة الإرهابية ما يقدر بنحو 10 إلى 15 ألف مقاتل بين سوريا والعراق، مع عشرات الآلاف من المتعاطفين المستعدين للحشد. وبالتالي، يمكن أن يعود داعش إلى العراق كما كان الحال في عام 2014.. بالإضافة إلى ذلك، فإن إعادة زعزعة الاستقرار في شمال شرق سوريا من شأنها أن تسمح لمقاتلي داعش بالتدفق إلى العراق وإعادة زرع الفوضى.
ومن المهم أيضًا عدم الاستهانة بإمكانية زعزعة الاستقرار لدى اللاجئين السوريين في لبنان والأردن، وكذلك العرب العراقيين في أربيل والسليمانية إذ يشكل وضعهم غير المستقر أرضية تجنيد لداعش ويساهم في خطر عدم الاستقرار في المنطقة. وتؤيد القوى الغربية بقوة مشروع السيادة العراقية لكن وجود الميليشيات يمكن أن يمنع إقامة السيادة الكاملة فالميليشيات في العراق هي أدوات للأحزاب السياسية الشيعية، ورغم الجهود المبذولة لتعزيز الجيش الوطني، إلا أنه لا يزال ضعيفا، بسبب نفوذ الميليشيات. كما أن الدول المجاورة، مثل تركيا والمملكة العربية السعودية، مترددة في رؤية جيش عراقي قوي، بسبب عدم ثقتها في إمكانات العراق العسكرية، وهو إرث من عهد صدام حسين. وفي ظل هذه الظروف، تزدهر الميليشيات وتقوض السيادة العراقية من خلال إعاقة محاولات الجيش للسيطرة على الحدود والدفاع بفعالية عن الأراضي. ورغم أن الوظيفة العسكرية لا تزال تجتذب الشباب بسبب الموظفين، إلا أن المؤسسة تتعرض للتهميش وسوء المعاملة من قبل المليشيات التي لها اليد العليا. وعلى هذا فإن استعادة السيادة العراقية سوف تتطلب إعادة بناء جيش قوي، إلا أن هذا الأمر يواجه عقبات داخلية وخارجية. علاوة على ذلك، ومع الرحيل المقرر للتحالف الدولي، فإن وحدات النخبة التي شكلها، مثل قوة دلتا، معرضة لخطر التفكيك أو النبذ. لقد دعمت الدول الغربية وما زالت تدعم سيادة العراق الموحد لكن هذا أثبت عدم فعاليته، لأنهم يفتقرون إلى الوسائل ولأن التشرذم العرقي والطائفي يجعل من الصعب إعادة إرساء هذه السيادة... واليوم فإن قوة "المحور الأوراسي" (الصين وروسيا وإيران) في المنطقة، وخاصة في العراق، لابد وأن تجبر الغرب على مراجعة استراتيجيته في التعامل مع العراق. وطالما استمر العراق في التمتع بوضع مالي جيد بفضل عائدات النفط، فمن غير المرجح أن يواجه عدم استقرار كبير. ومن الناحية الاقتصادية، فإن الوضع ليس كارثيا: فقد زادت الرواتب وتم خلق فرص العمل في الخدمة العامة وقد اعتمد السيد السوداني نهجا تصالحيا من خلال إعادة توزيع عائدات النفط من أجل شراء السلام الاجتماعي.
ومع ذلك، يظل العراق عرضة للمشاكل المحتملة التي يمكن أن تؤدي إلى زعزعة الاستقرار. فأولاً، احتمال أن يمتد الصراع في غزة إلى لبنان وسوريا، وأن يهاجم الإسرائيليون إيران، من شأنه أن يعرض العراق لخطر الانجرار إلى الفوضى. وبالإضافة إلى ذلك، تواجه البلاد أزمة حادة في نقص المياه. ففي خمسة عشر عامًا فقط، انتقلت البلاد من حالة الوفرة، حيث يتوفر 2000 متر مكعب من المياه لكل ساكن سنويًا، إلى حالة حرجة، مع أقل من 500 متر مكعب. وترجع هذه الأزمة إلى السدود في تركيا وإيران، وانخفاض هطول الأمطار وزيادة الاستهلاك المرتبط بالنمو الديمغرافي (43 مليون نسمة في عام 2023 مقارنة بـ 25 مليون نسمة في عام 2000). ويبدو أن القادة العراقيين لا يأخذون هذه الأزمة في الاعتبار حقًا، ويكتفون بالاحتجاج على احتباس المياه الذي تمارسه أنقرة، ولكن دون اتخاذ إجراءات ملموسة مثل إعادة تدوير المياه وتحديث تقنيات الري. وتتقلص الأراضي المزروعة بين بغداد والبصرة كل عام، مما يؤدي إلى نزوح أعداد كبيرة من السكان نحو "أحزمة البؤس" المحيطة بهذه المدن. ومن المحتمل أن يؤدي هذا الوضع إلى زعزعة استقرار البلاد، خاصة إذا أصبحت القيود المفروضة على المياه ونقص الكهرباء أكثر شدة، مما قد يؤدي إلى أعمال شغب، كما يحدث بشكل متكرر في البصرة وحتى في ضواحي أربيل، العام الماضي.
* متخصص في شؤون العراق وسوريا