ستار كاووش
غالباً ما تتغير أمور حياتنا وتأخذ مسارات غير متوقعة أبداً، حيث يمكن للأشياء التي تبدو عابرة، أن تصنع نقلة مهمة في حياتنا، مثل هذه المقهى أقف أمامها الآن بعد كل هذه السنوات، شارد الذهن، مستعيداً الطريقة التي إكتشفناها أنا ومجموعة من أصدقائي وصارت مقهانا الأخيرة الثابتة.
وقتها لم نستسغ المكان عند أول وهلة، ربما بسبب ما حدثنا به احد الاصدقاء عن مساوئ المكان، لكن سراً ما صارَ يجذبنا شيئاً فشيئاً. في أول يوم وقفنا عند الباب بضع لحظات، ثم دخلنا بسرعة، ليلتفت نحونا بعض رواد المكان، وكإنهم يقولون في سرهم (من أين جاء هؤلاء الشباب غريبي الأطوار؟)، مرت ساعة وساعتان ونحن نتجلد أزاء أفكارنا المسبقة حول هذه المقهى، ومضت الليلة الأولى على مضض، مع ذلك قررنا العودة في اليوم التالي من جديد، وبعد بضع زيارات، بتنا نتردد على هذه المقهى كل يوم تقريباً، نتفحص الوجوه ونتأمل الملامح، ننظر بوجه هذه المرأة، ونتمعن بشعر تلك، حتى تعودنا على المكان الذي صار أكثر جمالاً وأشَدَّ لطفاً مما رأيناه في اليوم الأول. إنسجمنا مع الناس وتلاءمنا مع صاحبة المقهى، وباتت العلاقات تحدث من تلقاء نفسها. والعلاقة المهمة والكبيرة كانت هي علاقتنا بالمكان ذاته. فقد جئنا للهو والعبث، وها نحن نحب المكان ولا نريد حتى مغادرته، وصار الرواد المعدودين أصدقائنا، حيث شعرنا بألفة مذهلة وحميمية أكثر مما لقيناه في كل الأماكن السابقة، وقد صارت تسمية (الأمل الأخير) والتي أطلقناها في البداية على المكان، مناسبة تماماً، انه فعلاً أملنا الذى انسجمنا معه.
هنا عرفنا إن كل مرحلة من حياة الانسان لها مسارها وطريقها، وكل عمر له جماله وقوته وتأثيره. عليكَ تَقَبُّلَ ذلك، والحياة لا تتوقف بكل الأحوال عند عمر معين. وكل تغيير يحدث، يمكنك أن تجعله إيجابياً، لأنك أنت -وبكل سنين حياتك- من يصنع جمال البقعة التي تطأها قدماك، وأنت من يمنح الأماكن حميميتها ودفئها، فعليك أن تتحلى بالايجابية لأن كل شيء حولك هو مرآة تعكس روحك. وهكذا فالتصالح مع النفس هو الذي جعلَ هذا المكان أفضل وأسهل من كل مقاهي المدينة.
والمهم انه لم يعد مقبرة كما رأيناه أول مرة، بل حديقة جديدة مليئة بزهور مختلفة عن تلك التي كنا نعرفها سابقاً، فكما يحمل التوليب سحره الخاص، فاللافندل مدهش أيضاً. وبعد السنوات الطويلة التي قضيناها هنا في هذه المقهى، تفرقنا كل حسب ظروفه ومتطلبات حياته، لنتوزع في النهاية بين مدن مختلفة. وها أنا أجدُ نفسي الآن بعد كل هذه السنوات، واقفاً مرة أخرى على الرصيف المحاذي لهذه المقهى، مقهاي القديمة.
نظرتُ الى الواجهة التي بدتْ -بسبب تراكم السنوات- أكثر عتمة من السابق، ثم إقتربت شيئاً فشيئاً من الجدار المبني بالحجر الأحمر، والذي كنت قد حفظته في ذاكرتي عن ظهر قلب، توقفتُ قرب حافة النافذة الصغيرة ونظرت من خلف الزجاج، فتراءى لي ذات الإعلان القديم المطبوع على الألمنيوم، والذي مازالَ معلقاً على الجدار، وتظهر فيه فتاة تمسك قدح أمستل، فإستحضرتُ صوت ماري وهي تقدم الطلبات، واضعة على كتفها قطعة القماش الصغيرة التي تمسح بها الأقداح، وتذكرت كيف عثرت على ورقة الخمسين يورو على الأرضية وأنا في طريقي الى الحمام، والتي اشتريت بها مشروبات وضعتها في صينية كبيرة أحضرتها الى الطاولة وفاجئتُ بها الجميع.
إلتَفَتُّ نحو الشارع الذي بدا لي شارعاً آخر، وأعدتُ بصري مرةً اخرى نحو مقهاي ذاتها، مقهاي التي تزدحم الآن بشباب من جيل جديد لا يمكن أن يتصورا بأن شخصاً مثلي قد قضى نصف حياته هنا، شباب لا أعرفهم طبعاً لكني أعرف بأنهم سينتقلون مثلي عاجلاً أم آجلاً الى مقهى أخرى ستكون هي أملهم الأخير.