لطفية الدليمي
لم يزل الدكتور الراحل (زكي نجيب محمود) أحَبّ الفلاسفة العرب إليّ حتى بعد عقود طويلة من وفاته (توفّي عام 1993). إعتاد الراحل على الكتابة بذائقة أدبية بيّنة؛ لكنّ هذا لا يعني أبداً أنّه أراد تخليط الصرامة الفلسفية المطلوبة برخاوة أدبية متخففة من ثقل الكتابة الفلسفية.
العكس هو الصحيح. دعا الرجل في كتاباته إلى تعزيز منهج (الوضعية المنطقية) المعروف بصرامة متطلباته ورؤيته للمنهج العلمي عندما اشترط توفّر المعطيات الحسية لكي يكون البحث ذا معنى؛ وإلا فبغير هذه المعطيات ستكون مقارباتنا لغواً خالصاً. لكنّ الرجل في الوقت ذاته أبان بكلّ وضوح أنّ المنهج العلمي شيء، والمعرفة الوجدانية شيء آخر، كلتاهما مهمّتان وضروريتان وليس من علاقة شرطية توجب إنقياد إحدى المعرفتين للأخرى. كلّ معرفة لها فضاؤها الخاص بها. كثيرٌ من إشكالياتنا المعرفية (التي قد تتطوّرُ لتقاطعات نزاعية خطيرة) تنشأ من تداخلات مؤذية وغير منتجة بين حقول معرفية ليس من موجب لتداخل بينها (مثل العلم والدين). عندما يكتب الفيلسوف الراحل في غير نطاقه الفلسفي الصارم سترى ذائقته الادبية الرفيعة، وخياله الخصب المنتج.
حرصتُ في بيتي البغدادي على اقتناء وقراءة معظم كتب الراحل المؤلفة والمترجمة، وقد ساندني زوجي الراحل (كامل العزاوي) على هذه المهمّة لأنّه كان تلميذاً وفيا للفيلسوف الراحل عندما درس في جامعة عين شمس. لم أكتفِ بالكتب مصدراً لقراءة ما كتبه الراحل؛ بل حرصتُ على قراءة ما كان يكتبه من مقالات شهرية في مجلّة (العربي) الكويتية عندما عمل أستاذاً للفلسفة في جامعتها لسنوات طوال. معظمُ المقالات التي كتبها الراحل صارت لاحقاً كتباً منشورة، وحسناً فعل في ضمّها بكتاب حتى لا يطويها النسيان. كانت مقالات الراحل مادة شديدة الدسامة وتحرّضُ على التفكير النقدي الدقيق، فضلاً عن صياغتها بلغة عربية متوهجة وبأسلوب جميل يراعي المزاوجة بين الدقة والانضباط والفكر المُرتّب.
أمضيتُ أياماً عديدة في الاسابيع الماضية بقراءة كتب عدّة للراحل وبخاصة سيرته الذاتية التي ضمّنها كتباً ثلاثة: سيرة نفس، سيرة عقل، حصاد السنين. الكتاب الاخير منها كتبه الراحل وهو يعترف في تقديمه للكتاب بأنّه سيكون آخر ما يكتبه في حياته. أحبّ الاشارة أيضاً إلى كتاب رائع آخر للراحل بعنوان (أيام في أمريكا) يحكي فيه عن تجربته في مقتبل حياته الجامعية عندما قضى سنة أستاذاً زائراً في جامعتين أمريكيتين في السنة الاكاديمية 1953- 1954.
يؤكّد الراحل في سيرته عندما أبتُعِثَ في أيلول عام 1944 لإكمال دراسته العليا في الفلسفة بجامعة لندن على حقيقتين أساسيتين: الاولى هي المساواة في القيمة الانسانية للجميع بغضّ النظر عن ملكيته أو منبته الاجتماعي أو وظيفته. الكل سواء أمام القانون. يقول الراحل أنه وصل لندن والحرب العالمية الثانية لا تزال مشتعلة، وتقنين الغذاء سارٍ على الجميع. يقول أنّ المرء لم يكن بمستطاعه الحصول على أكثر من الحصة المقرّرة له من الطعام حتى لو ملك مال قارون. ثم يشير في ملاحظة أخرى إلى أنّ الجميع يقف في الطابور بانتظام ومن غير مناكفة أو تأفف، ويقول أنه شهد بعينيه وزيراً يقف وراء عامل نظافة في طابور. الحقيقة الثانية التي أكّدها الراحل هي إحترامُ التفكير العلمي على كلّ المستويات.
لم يدع الراحل فترة إقامته الدراسية في بريطانيا تقتصرُ على الدرس الاكاديمي رغم أنّه أحرز مرتبة أولى في إمتحان معادلة شهادة البكالوريوس؛ وهو ما أهّله لدراسة الدكتوراه مباشرة من غير الحصول على الماجستير أولاً. راح الراحل يكتب مقالات ضمّنها رؤيته لجوانب عدّة من الحياة في بريطانيا، وقد نُشِرَتْ هذه المقالات في الصحافة المصرية، ثمّ جمعها الراحل في كتاب أسماه (جنّة العبيط). لعلّ غير القارئ لكتابات الراحل سيندهشُ لو عرف أنّ الراحل يقول أنّ أوّل عبيط يقصده في مقالاته هذه هو ذاته. يسهبُ الراحل بقوله أنّ كثراً منّا يولدون ويموتون وهم موقنون أنّ نطاق عيشهم هو الجنة الكاملة. غريبٌ هذا اليقين القطعي لديهم. ثمّ يردف ذلك بقوله أنه هو نفسه رأى في عيشته المصرية جنة حتى جاء بريطانيا وأتيحت له الفرصة للمقارنة ووضع الامور في نطاق النقد والتمحيص والمراجعة. عندما يعيشُ المرء في نطاق مغلق تنعدم أمامه وسائل المراجعة والمقارنة لأنّه يعتادُ رؤية واحدة وفهماً واحداً وإحساساً واحداً. الاشكالية المعقّدة تنشأ من هذا الوضع عندما يقتنع المرء، وبيقينية صارمة، أنّ عيشه هذا هو أفضل ما يمكن، وأنّ مواضعاته الفكرية والفلسفية أصحّ من سواها. ينتهي مثل هذا المرء إلى أن يكون عبيطاً لا يفقه سوى حالة واحدة وعيشة واحدة وفهم واحد.
إذا كان الراحل زكي نجيب محمود يرى في مصر الاربعينيات جنة العبيط؛ فكيف سيراها الآن لو أمكن له رؤيتها؟ وكيف سيرى بلداناً عربية أخرى تماثلُ مصر وربما تزيد عنها في يقينيتها المتضخّمة ونكوصها المرضي وتخلفها الثقافي والفلسفي؟
بالمقارنة مع نهاية الحرب العالمية الثانية عمّا هو عليه حالنا اليوم تكاثرت جنان العبيط في واقعنا العربي، وكثر العُبْط مع الاسف، وترافق هذا مع شيوع أصوليات تسعى لجرّ الجميع جرّاً إلى جنائنها التي لا تنتجُ سوى الاوهام والتخلف والتردّي الاخلاقي والقيمي.