اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > من مسوغات أقلمة السرد العربي

من مسوغات أقلمة السرد العربي

نشر في: 20 إبريل, 2024: 11:33 م

د. نادية هناوي

يعد التبدل في ميزان الغلبة الثقافية بين حضارة آفلة وأخرى ناهضة أمرا طبيعيا كدورة تاريخية فيها الحضارة التي تنمو وتكبر لا بد لها أن تهرم وتضمحل لتنهض بدلها حضارة فتية ستكون الأجواء مهيأة لان تحل محلها،

فالحضارة البابلية أسست بإنجازاتها للبشرية أنظمة حياة لكنها حين أخذت بالاضمحلال قامت محلها حضارات أخر ذات انجازات اقتصادية وعسكرية وثقافية. فالأدوار الحضارية للأمم تتبدل بتبدل موازين القوى والتسلط. وبدءاً من سقوط الأندلس أخذت أوربا تتبع نظاماً إقطاعياً وشاع الفكر الميكافيلي والعقلانية الديكارتية على مختلف الصعد مما جعل المادية والرأسمالية هي الصورة العامة للحضارة الغربية.

كل هذا حصل بسبب ما نُقل من أرث علمي وثقافي كان العرب قد تركوه في الأندلس، فأفاد منه الأوربيون ولكنهم بالمقابل مارسوا دورهم الحضاري متعالين وغير معترفين بفضل العلوم العربية في التأسيس لنهضتهم العلمية والأدبية فانفتحت لهم مجالات مختلفة وبآفاق كبيرة.

ولا خلاف في أن المجتمعات كتكوينات بشرية هي واحدة بغض النظر عن خصوصياتها اللغوية والعرقية والعقائدية، ولكن الظروف التاريخية هي التي تعطي لهذا المجتمع أو ذاك دورا مركزيا يؤثر به في المجتمعات الأخرى، وبسبب هذا التأثير يغدو مجتمع ما هو الغالب بوصفه المؤسس لتقاليد وأنظمة توجه الحياة وتطورها. وهذا ما حصل مع المجتمع الأندلسي الذي ساهمت الظروف التاريخية في أن يكون حامل لواء الثقافة العربية بعد سقوط بغداد وبه انيطت مهمة البناء واليه انتهت تراكمات المنجز العلمي والثقافي العربي لقرون عدة، فأثر بدوره في المجتمعات المجاورة لكنه مرَّ بظروف تاريخية أخرى قاهرة جعلته مغلوبا يتخلى عن كل ما تراكم عنده من أرث عربي إسلامي ويسلّمه على طبق من ذهب للمجتمع الغالب/ الأوربي. ليس ذلك حسب، بل ساهم بشكل أو بآخر في تمكين الغالب الأوربي من النهوض من عصوره الوسطى المظلمة والانطلاق من حيث انتهى العرب المسلمون.

والقليل جدا من الأوربيين مستشرقين وغير مستشرقين اعترف بتأثير الحضارة العربية الإسلامية في نهضتهم، لكن غالبيتهم يتفقون على أن الحضارة اليونانية والرومانية هي وحدها المؤثرة في النهضة الأوربية.

ولا عجب في ذلك لأن الغالب لا يعترف للمغلوب بأي فضل لاسيما حين يكون المغلوب متقاطعاً معه فكرياً ودينياً وقريب العهد به ومتاخماً له في حدوده. وعلى الرغم من ذلك، فان ما تم انجازه أوربيا على صعيد الآداب والفلسفات والعلوم يؤكد أن ذلك لم يتم بلا مقدمات تمهيدية لها أصول راسخة وقواعد أسستها حضارة سابقة ثقافيا وأدبيا ولها انجازاتها في مجالات عديدة كاللغة والنحو والأدب والتاريخ والجغرافية والطب والفلسفة والاجتماع والفقه وغيرها. أضف إلى ذلك منطقية التفاعل بين السابق المؤسس الذي له علاقات وامتدادات وتأثيرات في اللاحق التابع وبحسب قانون الضرورة الذي يقوم على فكرة أن التحول الاجتماعي يتحدد بالوعي في بناء العلاقات الإنتاجية وتطوير البنى الإبداعية. وسريان قانون الضرورة يعني سريان قانون آخر هو التعاقب الصاعد والبنيان الفوقي في مختلف مظاهر الحياة الاجتماعية والتاريخية والثقافية والايديولوجية ومن جراء ذلك كله تنشأ الحضارات وتفرض سيادتها كقوة عالمية.

فالثقافة ليست وسيطاً ناقلاً للعلوم والفنون والعمارة كما يتصور بعضهم، بل هي نشاط ذهني فيه يتمثل جوهر أي أرث معرفي. ومن خلال هذا النشاط ارتقت أوربا في مدارج المعرفة مدركة أن للمثقفين ككتّاب وأدباء دورا خطيرا بوصفهم يمارسون الفعل الذهني الإبداعي ويتماسون بقوة مع الأنظمة المجتمعية كلها.

وصحيح أن لتغلغل الاستعمار في البلدان العربية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر فضلا في نقل بعض مظاهر التحديث والتمدن إلى العرب، لكن ذلك لا ينبغي أن ينسينا فضل تغلغل علومنا وآدابنا في العصور الوسطى إلى أوربا.

وما القول بأن القصة والرواية العربيتين فنون أوربية مستوردة إلا كالقول بأن للمستعمر فضلا في نقل ثقافته الأوربية إلى العرب. ولقد سعى المفكرون العرب في تنظيراتهم للعلاقة بين الشرق والغرب إلى توكيد ما لحضارة العرب الغابرة من دور في نهضة الأوربيين لكن ذلك السعي لم يتأكد بالدرجة التي بها تأكد القول بأن الحضارة الأوربية هي السبب في نهضة الثقافة العربية.

وازداد هذا الأمر وضوحا في مواقف بعض أدباء النهضة العربية من الأدب الاوربي ومنهم رفاعة الطهطاوي(1801 ـ1873 م) الذي كان مبشرا بالأدب الأوربي بوصفه حامل المشعل التنويري المنقذ من الظلام - الذي كانت أوربا سببا من أسبابه- في حين وقف موقفا متصلبا من الإرث العلمي والأدبي وعده محشوا بالبدع وسبقه في ذلك أستاذه حسن العطار(1766-1835).

وإذا كان لبعض أدباء النهضة الأدبية أن يتمسكوا ببعض تقاليد السرد العربي القديم، فان أدباء القرن العشرين تنافسوا في إتباع تقاليد السرد الغربي. وأهمها تقاليد كتابة الرواية التاريخية والواقعية والجديدة وما بعد الحداثية التي استعادت ما كانت الرواية الأوربية الكلاسيكية قد تأسست عليه من تقاليد سردية عربية. ولم يعترف منظرو السرد بذلك، بل هم يفسرون استعادة آداب العصور الوسطى وعصر النهضة بأنها حاصلة من جراء التطور الذي حصل في علوم اللغة والنقد البنيوي وتأثير الظاهراتية على الأدباء الأوربيين ودور العولمة في مد جسور الترابط بين النقد والنظرية والرواية خاصة والعلوم والآداب عامة.

وليس جزافا القول إن كثيرا من مواضعات الرواية الجديدة الفرنسية استمدت آفاقها من متروكات السرد الواقعي باحثة في عمق الخرافات ودور العقول المدركة في التقاط بعدها الجواني أو الايحائي أو التشيئي. وهو ما سارت عليه الآداب القديمة ومنها الأدب العربي.

وليس أمر تناسي التقاليد السردية العربية بمقتصر على منظري السرد ونقاده الغربيين، بل هو يشمل أيضا النقاد العرب الذين نسوا بدورهم حقيقة هذا التأسيس وراحوا يتبعون نقاد الغرب في تفسير كتابة الرواية الجديدة والرواية ما بعد الحداثية.

ولا مراء في أن ذلك النسيان يتأتى من الاهتمام بالنتائج وليس المسببات، وهو ما يقتضي وقفة أولا لان هذا الإرث السردي هو أرث عربي وثانيا لأنه قد أسس وما زال يؤسس للتجديد الروائي والقصصي في الأدب الغربي. وثالثا لأن في الوقوف على تقاليد سردنا والعمل على كشف المزيد منها، تذكيرا وتنبيها بما في هذه التقاليد من أهمية جعلت ثرفانتس يكتب عملا عُدَّ جنسا جديدا هو الرواية. وليس هذا الجنس سوى وريث لتقاليد القصة العربية.

وقد يكون كولن ولسن هو الأكثر تخلصا من عقدة التعالي الحضاري وتفوق العرق الأبيض ـ بما عرف عنه من اللاانتمائية للمركزية الغربية ـ وهو يناقش نشأة الرواية الأوربية التي كانت سببا في تمدن العالم الأوربي وتفوقه مشككا بما ذهب إليه غيره من النقاد من تفسيرات لهذه النشأة، قائلا:(إن أكبر المفاهيم الخاطئة على الإطلاق أن الرواية لم يبلغ عمرها بعد سوى قرنين ونصف القرن ولكنها في ذلك الوقت غيرت من ضمير العالم المتمدن أننا نقول إن دارون وماركس وفرويد غيروا وجه الثقافة الغربية ولكن تأثير الرواية كان أعظم من تأثير الثلاثة مجتمعين) ولكن من الذي جعل للرواية هذا التأثير الذي به غيرت وجه أوربا أولا والغرب آخرا؟ هذا ما لا يجيب عنه ولسن ولكنه يقول:(إن البقاء للأصلح وان الكتابة الإبداعية عملية شاقة كالصعود إلى أعلى التل حيث يتساقط الضعفاء بينما يواصل الأقوياء بتؤدة الصعود)

لا خلاف في أن للتفوق الكولونيالي وسياسة العصا الغليظة فاعليتهما في أن يستكثر النقاد الغربيون على أنفسهم الاعتراف بدور العرب الحضاري في فكرهم وأدبهم الحديث.

إن مثل هذا التغاضي والعزوف والاستكثار والاستنكاف والحرج هي مظاهر باتت معروفة وملموسة من لدن أي ناقد أوربي أو غربي. وإذ يصبح من الضروري نبذ التبعية ومد الجسور الثقافية ما بين الثقافة العربية والثقافة الغربية، فان ذلك لا يكون سوى بأقلمة السرد العربي الذي به نعيد إحياء ما للمرويات التراثية العربية من تقاليد راسخة انتقلت وأثرت في آداب الأمم المجاورة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram