ميسلون هادي
يقف الدكتور عبد الجبار الرفاعي في الضد من الذين يمزقون النسيج المجتمعي، والعبث بأمنه وسلامته بذريعة الإيديولوجيا، وتقديم المعتقد على الوطنية، وينتقد دفاع حسن حنفي المستميت عن أفكار سيد قطب،
التي غرست كراهية عميقة لمجتمعه، ولكل مختلف بمعتقده عنه، بل وصنّفت كل ما حوله على أنه (جاهلية). فدعوة حسن حنفي لتجديد (التراث بالتراث) قد أَهدرتْ، حسب الرفاعي، قرنين من الزمان، لم تحرز فيه نجاحا يذكر. لأن من يحولون الدين إلى أيديولوجيا يختزلونه في قوانين ثابتة وقوالب جامدة لا تلتفت الى الواقع المتحول كشلال متدفق.
يسجل الدكتور عبد الجبار الرفاعي في هذا الكتاب* المهم وقفات مستفيضة إزاء بوصلات التفكير لمجموعة من المفكرين الذين خاضوا في مسألة نقد الفكر الديني وتجديده:
1. علي الوردي، وهو أول مثقف ديني نقدي في العراق، حسب الرفاعي، وكان جسوراً في طروحاته، التي مثلت صرخة جريئة مدوية بالنسبة لزمانها، إذ كتب الدكتور علي الوردي بلغة الناس المحكية البسيطة، فوصلت بساطتها إلى فئات مختلفة من القراء، ووجدت لغته الساخرة والحيوية الآذان الصاغية لها، لأنها ظلت بعيدة عن الوعظ المباشر لرجال الدين. غير أن بذرة المثقف الديني النقدي لم تكتمل، وانصرف الوردي تدريجيا عن الدين، واهتم بدراسة وتحليل قضايا مجتمعية أكثر قربا من اختصاصه. يأخذ عليه الدكتور عبد الجبار الرفاعي أنه كان حماسياً في بعض طروحاته، فثبت على مبدأ التناشر والازدواجية في الشخصية العراقية، مع أن المجتمع قد تغير كثيرا من حوله، كما أنه ركز على جوانب سلبية من الشخصية العراقية، قد يكون وجودها طبيعياً، مثلها مثل باقي البشر، وتجاهل مزايا أخرى تمتعت بها. وقد نقد الوردي نفسه حول ذلك، وقال لاحقا أن النهج العلمي يحتم عليه أن يذكر المحاسن والمساوئ دون مبالغة أو مغالاة.. وأخيراً يتوقف الرفاعي مع الوردي عند مسألة مهمة هي الأخطاء اللغوية التي تعتور كتاباته، وقد اعترف علي الوردي بها، بل ودافع عن تلك الأخطاء، التي يصعب عليه استدراكها، لصعوبة قواعد اللغة العربية ووعورتها. وهنا يعرج الرفاعي إلى ضرورة تيسير اللغة العربية، وتخليصها من القواعد الصعبة التي تؤثر على سلاسة إيصال المعنى، كما يعترف الرفاعي (بتواضع العلماء) أنه يحيل أعماله إلى محرر لغوي، لكي تخرج سليمة من الأخطاء النحوية.
2.حسن حنفي، الذي نادى باليسار الإسلامي، ويسميه الرفاعي بجامع الفلسفة مع الكهنوت، أي جامع الأشياء المتنافرة مع بعضها البعض، ومع أن كتاباته تخلو من التحريض على المذاهب، واللوثة الطائفية لم تصبها، غير أنه حاول استعارة جلباب التراث وخلعه كغطاء على الأيديولوجيات المختلفة، أي أراد تجديد التراث بالتراث، وهذا تناقض بحد ذاته، لأنه يعزل المجتمع عن العلوم والمعارف الحديثة، كما أنه يقدم توفيقا ملفقا بين الفرق والتيارات والاتجاهات والايديولوجيات المختلفة.
3.داريوش شايغان، الفيلسوف المغمور الذي حذر من أدلجة الدين، لأنه يحوله إلى شأن دنيوي. بمعنى إهدار الطاقة الرمزية في الشعائر والطقوس الدينية، وبالتالي إنهاك الدين وتفريغه من محتواه المعنوي. يتحمس الرفاعي لشايغان لأن الأيديلوجيا ليست معادية للدين فقط، وإنما معادية للفلسفة.
4.سيد حسين نصر، وهو من جماعة الحكمة الخالدة، أو المعرفة الأزلية المتعالية على الزمان والمكان، أي أن العالم كله وطنها. وهو أيضا صاحب فرضية العلم المقدس، التي يأخذ عليها الرفاعي هجاء الفكر الغربي، ورفض الحداثة الغربية لأنها مادية.
5.أحمد فرديد، الفيلسوف الشفاهي، أو الفيلسوف ضد الفلسفة. أي أنه يبدأ بمقدمات منطقية وينتهي بنتائج لاهوتية. ويخلط أيضا بين صوفية مجردة وفكرة فلسفية، فينتزع مفاهيم ابن عربي مثلا من فضائها الروحي، ويقحمها في مجال التاريخ البشري. كما نحت مصطلح (وباء الغرب) أو (الغرب زدكي) ويعني أن الغرب وباء أصاب العالم منذ الحضارة اليونانية وحتى اليوم. ويأخذ عليه الرفاعي هذا الدمج اللامنطقي بين العرفان والفلسفة.
6.محمد عمارة، المتحول في رحلته الطويلة من الماركسية إلى السلفية، وكيف أصبحت آثاره المتأخرة تنفض آثاره المبكرة، ومن الطبيعي أن يحدث هذا التغيير، كما دافع عن ذلك عالم الاجتماع علي الوردي في تغير مواقفه، عند تحديث المعطيات الاجتماعية المحيطة بنا، لكن عمارة، الذي يعتبر واحدا من رواد النهضة المجددين والعقلانيين، لا ينطبق عليه هذا الحراك الفكري في محطته الاخيرة، أو كيف تحكمت هذه الانتقالات في بوصلته الفكرية، فكان أحد الموقعين على بيان يتهم فرج فودة بالارتداد واستباحة دمه. يأسف الرفاعي لظاهرة الهروب للماضي كلما تقدم العمر ببعض مفكري اليسار الاسلامي أو الفكر العربي المعاصر بشكل عام، فنراهم بعد حياة فكرية تسودها العقلانية النقدية يحتمون بكهف الماضي من قلق الموت الوشيك، ويعودون إلى الأصولية، وكأنها توبة من إثم عقلي ارتكبوه في شبابهم.
7.مالك بن نبي، مفكر جزائري أصابه ذعر ضياع الهوية بسبب الاستعمار الفرنسي، وبالتالي تنفجر الهوية عنده إلى شقين متلازمين: المقاومة أولا من أجل التحرير، والانغلاق ثانيا على زمن الانتصارات والأمجاد في العصر الاسلامي الأول. لم يخرج ابن نبي كثيرا عن آراء ابن خلدون في تقليد المغلوب وولعه بالاقتداء بالغالب، ولكن الرفاعي يأخذ عليه تورطه بالتعميم، فيختفي عنده التمايز الواضح داخل طيف واسع من التدين التركي والإيراني والعربي والاندونيسي.. الخ. كما أن انتهاك الاستعمار لهويته وهوية أهله في الجزائر وضع ذهنه داخل إطار مغلق لم يتحرر منه، فأصبح التفسير التآمري هو الأداة الوحيدة لتشخيص الفشل في بلاده.
8.جودت سعيد، رجل دين سوري يتصرف كفلاح، مولع بسقي النباتات وتربية النحل ورعاية الخضرة، وكان صديقا للأرض نابذا للعنف، ومن عاداته كتابة آيات القران على الورق، ويعلل ذلك بقوله : كل نص نفهمه أكثر حين نعيد كتابته بأيدينا. نشر بيانا استثنائيا للسلام في كتابه (مذهب ابن ادم الأول)، فهو يرى أن تهمة الملائكة للبشر في سفك الدماء، لا تزال قائمة في جميع التيارات اليمينية واليسارية، أما تفسيره للجهاد الأكبر فهو تحصيل العلم والمعرفة. وهنا يتساءل الرفاعي: هل يمكن الخلاص من العنف بالنوايا الطيبة، أو بكلمتين فقط هما (موت الحرب)، وهو شعار رومانسي متخيل تبناه جودت سعيد في كتاباته الاخيرة؟. كيف يمكن ذلك والعنف هو من الثوابت الأبدية في الطبيعة الانسانية، كما يقول علم النفس وعلم الأعصاب المعرفي.
هذا السؤال نوجهه بدورنا إلى الدكتور عبد الجبار الرفاعي الذي ينطلق في كتاباته من مبدأ رومانسي أيضاً هو الرحمة، ويشدد على مفهوم روحاني في فهم الدين، فيقول بأن الدين كي يحقق وظيفته في حياتنا اليوم لا بد أن نفهمه بوصفه نظاما لانتاج المعنى الروحي والأخلاقي والجمالي في الحياة. صحيح أنه يخص النفس المتزمتة بهذه البراءة في نظرتها إلى الدين، ويعلن إنها تحتاج إلى القلب بموزاة العقل لكشف الابعاد الروحية والجمالية العميقة في جوهر الدين، ولكن أين من عيني أولاء الرحماء قبل أن يكونوا عباقرة ومنظرين؟. وما هي المعجزة التي ستجعلهم يغيرون نهجهم هذا؟.
الرفاعي أيضا يجمع نقيضين في جملة واحدة وهما اللاهوت والحرية، ويضعهما في مبدأ واحد هو لاهوت الحرية، وفهمت منه دعوة مثالية تجمع بين توحيد الله وتحرير الإنسان من كل أشكال العبوديات. فهو يشدد على أن الايمان بالله والتوحيد هو حجر الزاوية في بناء الحياة الرحيمة في الاسلام، وهذا اليقين الروحاني لم نجد له تمثلات راسخة في عالم الشهادة، بل اعترضته جدران متسلسلة من التزمت والتمذهب والانغلاق، هاجمها المفكر الجزائري أركون وأسماها (الجهل المؤسس). يعزو الدكتور عبد الجبار الرفاعي ذلك إلى عدم تدبر هذا الحضور المكثف لله في القرآن، وما يحيل اليه هذا الحضور من دلالات روحية لا تنضب.
هنا يخالف الرفاعي أغلب المفكرين العلمانيين الذين قرأت لهم، فهم برأيي الشخصي يتحدثون عن الدين، وهم في منطقة الشك أو الإلحاد، لكنهم لا يجاهرون بذلك خشية خدش مشروعهم التنويري وتعريضه لتداعيات اخرى، بينما يُفصح الرفاعي دائما عن إيمانه العميق بالله، ويعتبر هذا الايمان منبعا ملهما للحق والعدل والسلام والخير والمحبة، بل هو المنقذ للانسان من اغترابه الوجودي الذي يمزق سلامه وسكينته الداخلية. وبهذا يكون الدين أوسع بكثير من الكتب المقدسة، ويمتد ليشمل سلوك الانسان وتكريس مواقفه المشرقة من الحياة، وإيقاظ المعاني الروحية والاخلاقية والجمالية في حياته.
لم يصل الرفاعي الى هذه النتيجة بقفزة فكرية مفاجئة، وإنما مر خلال حياته بمراحل متعددة اعتنق فيها مدارس دينية مختلفة وتبنى أفكارها، ثم مع كل بوصلة يتوقف عندها يكتشف أن هناك دائما من يحول الدين إلى أيدولوجيا، وهذا هو أشد ما يعارضه الدكتور عبد الجبار الرفاعي في هذا الكتاب المؤثر والمهم.