طالب عبد العزيز
أصِلُ بغداد مدفوعاً بالحاجة والحلم الى مدينة مختلفة، أشعر فيها بالقوة والمنعة والجمال! مع يقيني بأنها ليست كذلك اليوم، لكنني، أعللُ النفسَ بشيء من ذلك، كيف لا، وهي العنوان الأكبر في الذاكرة العربية والاسلامية والتاريخية، والتي تشكلت عبر الزمن بوصفها مركز الكون، وبؤرة الضوء، وصفاتها هذه ليست اختياراً مني،
أبداً إنما هي الحقيقة الخالدة الوحيدة في العقل الانساني أيضاً، والتي مازالت تحتفظ بها، على الرغم من سقوطها المدوّي على يد المغول 1258 م وسقوطها الاخير بيد المستعمر الامريكي 2003 م، الذي أتى على الحلم ذاك، أو قوّض الكثير من أركانه.
إذا كان المستعمر الامريكي قد عمل على نزع الصورة العظيمة تلك بقوة الدبابة وبعض المرتزقة والخونة، عبر وصفة الديمقراطية الكاذبة، وتمكن من ذلك، حتى صارت تعرف كأحد أسوأ أماكن العيش في العالم، إثر الاحداث الدامية التي عاشتها في سنوات الاحتراب الطائفي، الذي استقطب وحوش الدنيا فأنَّ صورتها اليوم أكثر ظلامية بعين المتجول في شوارعها الخلفية، وهناك نسقٌ غير بغدادي تماماً، يتحكم بروحها، ويقبع على انفاسها، تستحيل معه الى شبه محمية للمال والسلاح، مستودع كبير لخزن الاحقاد والتخلف والرجوع بالتاريخ الى ما قبل بغداد، فلا مدورة المنصور، ولا غيمة الرشيد، ولا دار علوم ومستنصرية المامون. هناك شروع بهدم ذلك كله.
منذ أكثر من عقدين و الوهن والهوان يقرضان صورتها، اذ أنني لم اجدها ذابلة، وبلا بغداد إلا في السنوات الاخيرة. هناك سعي حثيث لسلب بغداد حقيقتها التاريخية، ولا أظنُّ الهاجس الطائفي سبباً، أبداً إنما هو الجهل بها. وإذا اعتقد حكامها اليوم بأنَّ المبالغة في التشدد والتضييق في الحريات والاصرار على إهمالها، وتحويل مركزها في السعدون والرشيد والكرادة الى ما يشبه المزبلة هو خدمةً للمذهب، وتقرباً من إئمتها ففي ذلك جهل وسوء تدبير، وإذا كانوا يعتقدون بأنَّ الاسلحة والتخويف بها والتغيير في معالمها سيجعل منها عاصمةً للتشيّع فهم يجهزون بذلك معنى من معاني التشيع ذاته، لم يعان أهل بغداد من الظلم والفساد والهيمنة على تجارتها وروحها كما تعاني منه اليوم. ليس السلاح مشكلة بيد قواتها الامنية، ولن يكون المسلحون عبءاً فيها، فهي مدينة تستمد عظمتها من السلاح عبر الزمن، ويشكل الجيش القوي الجزء المشرق من تاريخها، ونظرة العرب الاولى عليها أنها مصونة ومحمية وقوية.
ما يضرُّ بغداد هو الجهل بحقيقتها الاخرى، تنهار بغداد إذا انسحبت صورتها في التاريخ من كونها عاصمة للرشيد، وينحط شانها إذا مسحت اسم ابي نؤاس بخمرته من روحها، وكل حديث خارج الف ليلة وليلة لن يجعلها حلماً انسانياً، ولن تكون صورة الجمال والخيول والمواكب والبكائيات تعبيراً عن حقيقة التشيع فيها. التماع ذهب منارة الامام الكاظم كفيل بالصورة كلها، بل وحمامة واحدة على قبته الشريفة معادل موضوعي، وكبير ودالة لا أجمل منها على روح السلام التي نبحث عنها جميعاً .
في كل مادة اكتبها عن بغداد أقول: كونوا بغداديين، فالكون كله مدين لبغداد، وأرواح العالمين جميعاً تريد أن تتبغدد هناك. يكفي أن تقول دجلة لكي ينهار وجه القبح، ويصبح الضوء ماءً ونخلا، ويكفي أن نقول مدينة السلام لكي تطير ملايين الحمائم البيض في سمائها، فلا حاجة لها بخيل وجِمال وترهيب.
جميع التعليقات 1
د.علي محمد جواد الخطيب
منذ 9 شهور
كم انت رائع حقا بهذا الوصف ايها الاديب. فقد اثلجت صدري والمتني في الوقت ذاته وانا اتحسر على بغداد التي تريفت واصبحنا فيها غرباء على هذه المدينه المحطمه بعدما كانت فاضلة مطمنة يأتيها رزقها رغدا. أحتراماتي