TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > الردج والسخت

الردج والسخت

نشر في: 4 ديسمبر, 2012: 08:00 م

اللغة العربية لغة مترهلة، لغةٌ فيها غنى فاحش فيما لا فائدة منه، وفيها فقر كبير فيما له فوائد كثيرة وكبيرة، يَعْرف ذلك بشكل جيد من يشتغل في البحوث العلمية، ممن يعانون من فقر هذه اللغة للمصطلحات التي تكشف عن دلالاتها بشكل دقيق ومحكم. اللغة التي تُفصِّل في أسماء البراز وتضع لبراز كل كائن اسماً خاصاً، هي لغة متخمة بالهذر، وإلا ما فائدة أن نسمي مخلفات كل حيوان باسم خاص: (بعر البعير وثلط الفيل وخثي البقرة وذرق الطائر وسلح الحبارى وصموم النعام ونيم الذباب وقزح الحية وجيهبوق الفأر وعقي الصبي وردج الجحش وسخت الحمار)، وفعلاً ما فائدة مثل هذا الهذر؟ على الأقل ما فائدة أن نميز بين مخلفات الجحش ومخلفات الحمار؟
من جهة أخرى هناك تكدّس دلالات داخل المصطلح الواحد، كما هو الحال مع مفهوم الشرف، مثلاً، فدلالاته تبدأ من الجنس ولا تنتهي عند الفصل الطبقي، إذا نقول شريف في قومه ونقصد أنه من أسيادهم وليس من أكثرهم التزاماً وانضباطاً. المهم في هذا الموضوع هو علاقة الوعي العربي بلغته، فالوعي العربي وعي شعري بلاغي، وليس وعياً بحثياً علمياً، ولذلك لدينا غزارة في الإنتاج الأدبي وفقر مدقع في الإنتاج العلمي. فهل سيبقى الوعي العربي محكوماً بلغة مشوشة، أم أنه قادر على إعادة إنتاجها بشكل يلبي تطورات العصر؟
أبعاد هذه المشكلة تتضح عندما نسأل هل أن المفاهيم التي نستخدمها في حياكة أفكارنا مفاهيم مباشرة وواضحة، أم أنها غائمة ولا تؤدي لمضمون محدد، فمن الواضح أن التفكير يتأسس على المفهوم، وكلما كان المفهوم محدداً في دلالته كانت عملية التفكير أقصر وأكثر سهولة وأغزر نتاجاً.. فمثلاً: ما هي المساحة الدلالية التي تشير إليها المفاهيم التالية: (الشرف، الالتزام، العلم، الثقافة، العقل) من الواضح أن هذه المفاهيم تعاني من أزمة دلالة، فمفهوم الشرف ضائع في شراك الجنس، والالتزام شرعي أكثر منه قانوني، والعلم يحيل إلى علوم اللغة وما يدور في فلكها من فقه ومنطق أرسطي أكثر ما يحيل للعلوم الطبيعية، والثقافة مختصرة بالأدب، فالشاعر مثقف أكثر من المهندس والميكانيكي والبايولوجي، والعقل يحيل إلى الانضباط أكثر ما يحيل إلى المعرفة، فنقول عاقل ونقصد بأنه منضبط وهادئ.. ستقولون هذا حال المفاهيم في جميع اللغات والثقافات، وسأقول صحيح لكن عندنا المشكلة أكبر، ولذلك نجد بأن القرآن تحدى العرب ببلاغته، وليس بالمعلومة الموجودة فيه. تحداهم بالآيات التي من نمط: (والضحى، والليل إذا سجى) وليس بالآيات التي من نمط: (يا أيها الذين آمنو إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل). الآية الثانية يمكن أن يخشع لها وعي عملي يحب أن تكون الأشياء واضحة أمامه، ولا تقبل اللبس. أما الآية الأولى فيخشع لها وعي لا يريد أن يفهم بل يريد أن يسمع، وعي يتعامل مع اللغة باعتبارها غاية وليست وسيلة، كما يتعامل مع معظم وسائله الأخرى.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 6

  1. ابو عبير

    مبدع انت ايها الاصيل ، إن الكثيرون يكتبون ولكن لم يرسخ في ذهن المتتبع إلا ذلك العمود او الموضوع الذي يستفز ذهن القارئ والمتابع، جميع كتاباتك تزيدني معلومة وتستفز تفكيري . تحية لك . متفقا مع كل الموضوع وبالاخص (ان اللغة وسيلة لا غاية). صديق لكم / ابو عبير

  2. المهندس ضياء محمد هاشم

    السلام عليكم الاستاذ سعدون المحترم حقا موضوع يستحق تناوله بشكل واسع سواءا بمقاله او لقءات تلفزيونيه او ندوات في مركز بغداد الثقافي او قاعة المدى و التوسع في جعلها لغة عامله في مجالات الحياة و ليس زينه توضع على الرفوف في كثير من مفرداتها سلمت على

  3. شاكوش

    ما ذهب اليه الاستاذ محسن صحيح جدا. اللغة العربية لغة في طريقها الى الانقراض، فهي تمر بممر متطابق مع ما مرت به اللغة اللاتينية في بداية عصر النهضة حينما كانت اللاتينية لغة مقدسة يتكلم بها رجال الدين والسياسيين وبعض مثقفي روما في حين يجهلها او لا يفهم معان

  4. شاكوش

    ما ذهب اليه الاستاذ محسن صحيح جدا. اللغة العربية لغة في طريقها الى الانقراض، فهي تمر بممر متطابق مع ما مرت به اللغة اللاتينية في بداية عصر النهضة حينما كانت اللاتينية لغة مقدسة يتكلم بها رجال الدين والسياسيين وبعض مثقفي روما في حين يجهلها او لا يفهم معان

  5. علاء العبيدي

    ايها المبدع لقد اصبت والدليل على ذلك هو ما صرح به مؤخرا روبرت فسك على ان اللغه العربيه متحجره وهي سبب تخلف العلمي للعرب.

  6. علاء العبيدي

    ايها المبدع لقد اصبت والدليل على ذلك هو ما صرح به مؤخرا روبرت فسك على ان اللغه العربيه متحجره وهي سبب تخلف العلمي للعرب.

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram