كاظم الواسطيبعد عهودٍ طويلة من الإستبداد، ومصادرة الحريات الشخصية والعامة، إستبشر العراقيون خيراّ بما ستؤول اليه أوضاعهم الحياتية بعد عملية التغيير في التاسع من نيسان 2003، واعتبروا تغيير نظام الإستبداد مرحلة تحول كبرى تجاه واقعٍ مختلف لايمكن،
في ظل المآسي التي عانوها، أن يسمح بإستعادة أو إستعارة أيّ ملمحٍ من ملامح الدكتاتورية التي عملت على تشويه النفوس، وتحطيم العقول في مختبراتها السّرية الضاجة بصراخ الضحايا، وساحات حروبها المكتظة بالجثث، وأنين الجرحى. وفي ظل تلك الذاكرة، تقتضي معادلة الحياة الجديدة أن تكون الحرية بديلا عن الاستعباد، ورعاية حقوق الإنسان بديلا عن دائرة الإستبداد المغلقة على إنسانٍ بلا حقوق. وأصبح تفاعل العراقيين قوياّ مع هذا الواقع الإفتراضي، وصار الأمل في نفوس المنكوبين بأزمنة القهر والحرمان ضوءاً يلامس السماء، وفي شعاعه البعيد انصهرت أحلامهم، وغمضت عيونهم على مشهد حياة مختلف أنساهم النظر إلى من يكون القادم على عربة التغيير، ولم يهتموا بهويّة من يقف وراءها أو يقودها فعلا، فالأمر كان أشبه بمن يقدم لإطفاء بيتٍ يحترق، ويحاول العمل على إنقاذ ساكنيه من النيران المحرقة،فكيف يسأل من في البيت عن القادم ملوّحا بانقاذه. وعندما عمل الإرهاب الأسود على زعزعة هذا الأمل،ومحاولة حجب ضوئه عن عيون ضحايا أسياده الأولين، لم يستطع، بكل عمليات القتل والتدمير التي لم تشهد شعوب العالم لها مثيلا، أن يوقف عجلة الحياة العراقية التي ظلت تتحرك بدماء العراقيين وقوداً لأملهم بحياةٍ أخرى. وبالرغم من الخسائر والتضحيات التي قدمّها العراقيون على مذبح الأمل، ومنع الإرهاب من تحقيق مآربه الخبيثة، لم يبخلوا بدمائهم من أجل بقاء القادمين على (عربة التغيير) في كرسي الحكم، وتقدموا بصدورهم العارية وسط رصاص، ومفخخات الإرهاب إلى صناديق الإنتخاب للتصويت لهم ممثلين لأملٍ لم يزل يغشى أبصارهم، وكأنهم لا يريدون أن يصدقوا بأن من منحوه الثقة،وضحوا من أجله لم يفعل الشيء القليل لتغيير واقع الحال، ومنع سوء الأحوال. بل كان الأسوء هو أن يستعير (المُغيّر) قوانين وممارسات مَن قدم أصلا بدافع تغييره، والعمل ـ باسم إرادة الناس ـ على عدم العودة إلى نهجه.إن الحملة الإيمانية الكاذبة التي رافقت الحصار المدمِر الذي فرضته الدكتاتورية على العراقيين معروفة النيات والأهداف، ومازلنا نسمع قصصها الغرائبية المضحكة. فلماذا يعمل البعض اليوم على إستعارة قانون تلك الحملة – المهزلة ليطبقه وراء ستار جديد يحاول به إستغلال مشاعر الناس، وادعّاء تنفيذ ما يطلبونه هم، وليس توجهاّ ورغبة منه؟. لو أن الأمر تعلّق بتوجيه غلق النوادي الترفيهية والبارات والتضييق على محال بيع الخمور لخضع ذلك لإمكانية التأويل من زوايا مختلفة، ولكن حصول توجيهات في ذات المنحى – منع الحفلات الموسيقية والغنائية في مهرجان بابل، وقف فعاليات السيرك الفرنسي في البصرة، المحاولات القسرية لفرض الحجاب على الفتيات في العديد من المحافظات الجنوبية..الخ – يفرض علينا تفسيراّ محدداّ لفهم طبيعة هذا التوجه الذي يتنافى مع النصوص الدستورية التي تكفل احترام الحريات الشخصية والعامة، فضلا عن تعارض هذه التوجهات مع مبادئ الديمقراطية، وحقوق الإنسان، وبناء الدولة المدنية، والتي أعلنت القوى السياسية الفائزة في الإنتخابات التزامها بهذه المفاهيم والمبادئ في برامجها التي صوّت الناخبون لمرشحيها في ضوئها، وعلى أساسها. إن محاولات الالتفاف على الدستور، والبرامج الإنتخابية، وعلى آمال المواطنين التي ضحوا من أجلها بالغالي والنفيس في حياتهم، إنما هي طعنة في خيارات المواطنين أنفسهم، تستدعي المراجعة، واعادة النظر في تلك الخيارات، إضافة إلى ما تخلقه من أجواءٍ مشحونة بين الجمهور والنخب السياسية وما تفرزه من إشكاليات، وتداعيات ضارة بمرتكزات العمل الديمقراطي التعددي الذي يضمن لباقي الأقليات حقها في العيش المشترك، وممارسة أنماط حياتها على وفق طقوسها، وتقاليدها التاريخية التي تُبيح لها ما قد لا تؤمن به بقّية الطوائف التي اتفقت دستورياً على التسامح معه، والقبول بممارسته كجزءٍ من حقوق تلك الأقليات، علما أن تلك الأقليات تشكّل عناصر أصيلة في بناء حضارة العراق، ومازالت تسهم في تشكيل مجتمعنا الحديث في مجالاته المتنوعة. فليس من باب الرعاية والاهتمام بالحقوق غلق مصادر عيش العديد من أبنائنا ممن لا عمل آخر لهم يزاولونه في ظل شبح البطالة المخيف في العراق. والأولى بمسؤولينا الحكوميين تلبية نداء واستغاثة مواطنينا اليومية من تردي الخدمات العامة – انقطاع التيار الكهربائي، تلوّث مياه الشرب، الاختناقات المرورية، معالجة الحفر والنفايات في الشوارع والساحات العامة و و و و..-. أم أن دخول ناد ترفيهي أكثر ضرراً على المجتمع والدولة، وأخطر تأثيرا من عمليات الفساد الأداري والمالي في مؤسسات الدولة، وما يقوم الإرهاب به وعصابات الجريمة المنظمة من قتل وسرقات لممتلكات الناس في وضح النهار؟نحن بشر، قد نخطأ في هذا المجال أو ذاك، ولكن أمام حقائق الحياة، وحقوق الناس، علينا أن نقف بمسؤولية ضد من يحاول تشو
الحريات المدنية فـي العراق بين الأمل والارتداد
نشر في: 5 ديسمبر, 2010: 07:06 م