اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > الرواية الأدبية : تضم كل الأنواع الروائية!

الرواية الأدبية : تضم كل الأنواع الروائية!

نشر في: 5 يونيو, 2024: 12:30 ص

هل نلغي الأنواع الروائية ؟

ألِكس كلارك*
ترجمة: لطفية الدليمي
في محاضرة رايث** Reith Lecture التي قدّمتها هيلاري مانتل Hillary Mantel (والتي نُشِرت أوّل مرّة في مجموعة من المذكرات بعنوان مذكّراتُ ذاتي السابقة A Memoir of My Former Self بعد رحيل المؤلّفة)، إستذكرت الروائية بدايات مهنتها كروائية. حصل هذا في سبعينات القرن الماضي. ذكرت الروائية في محاضرتها آنفة الذكر:»في تلك الايام(سبعينات القرن العشرين) لم تكن الرواية التاريخية تلقى الاحترام أو قابلة لأن تكون نوعاً روائياً محترماً.

عنت الرواية التاريخية حينذاك نوعاً من كتابة الرومانتيكية المطعّمة بوقائع تاريخية. لو قرأتَ رواية رائعة على شاكلة أنا، كلوديوس I,Claudius فلن تكون معنياً كثيراً بتوصيفها في نوعٍ روائي محدّد. ستكتفي بأن تفكّر فيها كأدب وحسب وليس أكثر من هذا. لذا كنتُ حينذاك خجِلةً بشأن تسمية ما كنتُ أسعى لكتابته. رأيتُ في بواكير شروعي في حرفتي الرواية أنّ كلّ الروايات متماثلة مع بعضها: هي أدب وحسب وليس مهمّاً تحت أي نوع روائي يمكن تبويبها وتصنيفها. أردتُ حينذاك العثور على رواية تنالُ إعجابي حول الثورة الفرنسية. لم أعثر على واحدة تفي بطموحاتي المتطلبة؛ لذا شرعتُ في كتابة رواية حول الثورة الفرنسية».
توّجت مانتل جهودها بكتابة رواية عنوانها مكانُ السلامة الاعظم A Place of Greater Safety ، وهي تصوير أدبي إستثنائي لمجموعة كبار الثوار الفرنسية: دانتون، روبسبير، ديمولان؛ لكن على الرغم من أنّ الرواية إكتملت كتابتها عام 1979فإنّها لم تُنشَرْ حتى عام 1992. لاقت الرواية رفضاً واسع النطاق من قبل دور النشر، وقد أوضحت الروائية لاحقاً إنّها حسبت دوماً الثورة الفرنسية كأعظم حدثٍ مصحوب بالاثارة والدهشة في العالم؛غير أنّ الجمهور القارئ لم يشاركها هذا الرأي، ومن المنطقي أنّ دور النشر تناغمت مع رأي الجمهور القارئ ولم تفضّل المغامرة في أن تحيدَ عنه ومخالفته بطريقة مستفزّة للجمهور. فضّلت مانتل حينها -وهي ترى واقع الحال- ركن روايتها عن الثورة الفرنسية على الرف وكتابة رواية ذي موضوعة معاصرة؛ فكتبت روايتها كلّ يوم هو يوم الامهات Every Day Is Mother’s Day من أجل أن تحوز فرصة لنشر عملها بدل ركنه على الرف ثانية. لم تستطع مانتل نشر روايتها الاولى إلّا بعد أن ساهمت بكتابة موضوع نشرته في (غارديان) وتناولت فيه الروايات الاولى للكُتّاب والتي لم تلقَ فرصة للنشر .
النوع الادبي(الروائي) Literary Genre جنون يحدُّ كثيراً من التعريف بطبيعة الابداع الروائي، ويتغافل الحقائق الجوهرية عنه. لا ينبئ النوع الروائي القارئ بشيء عن الكيفية التي بها وفي سياقها يكتب الروائيون، أو كيفية قراءة القرّاء لما يكتبه الروائيون، أو الكيفية التي يرتجي بها الناشرون -وكذلك تجّار التجزئة والمعلّقون والمراجعون للكتب المنشورة- من الروائيين كتابة رواياتهم على هَدْيِها. لا أريد من هذه الملاحظة أبداً أن تدفع القارئ للشعور التلقائي بالانتقاد الشديد لما يفعله هؤلاء الناشرون والمراجعون والمعلّقون (وبينهم بعضُ أكثر الناس ذكاء وقدرة وموهبة). علينا بدل التوجّه بالنقد الشديد لهم أن نتفكّر في المتطلّبات الضاغطة لصناعة النشر التي تجعلهم واقعين دوماً تحت أعباء ثقيلة. هؤلاء يسبحون دوماً ضد التيار الذي تريده صناعة النشر وما تفترضه فيهم من قراءة ثقيلة لآلاف الصفحات، ومن ثمّ الموازنة الدقيقة والشاقة، وبقدر ما يستطيعون، بين ما يسعى الناس لقراءته من جهة، والاعتبارات الربحية من جهة ثانية.
تفكّرْ ملياً في الآثم الروائي الاكبر في هذا الشأن: إنه ليس رواية الجريمة، أو الرعب، أو الاثارة، أو الخيال العلمي، أو الجاسوسية، أو الرومانسية.؛ بل هو ما يرد تحت مسمّى الرواية الادبية Literary Fiction. الامر ينطوي على مخاتلة مقصودة أو غير مقصودة. كلّ رواية أدبية تستطيع إحتواء -بل هي تحتوي فعلاً- عناصر من الروايات الاخرى الموصوفة بأنواع محدّدة؛ لكنها في التحليل النهائي عديمة المعنى وليست أكثر من تشويش للقارئ: عندما نكتب رواية ونضعها تحت إطار توصيف محدّد فكأننا نتوجّه لمجموعة منتخبة ومصطفاة من القرّاء؛ الامر الذي يشي بالتناغم مع متطلبات السوق التجارية. نحن قد نتناسى أنّ القارئ الذكي والطموح وذا الامكانات المتفوقة على متوسّط الذكاء السائد ربما سينفر من الروايات المحدّدة باوصاف مسبّقة؛ ولكن لو قُدّم له العمل تحت مسمّى»رواية ادبية» فلربما سيجد فيه شيئاً يستهويه مما لايستطيع أذكى الروائيين حدسه أو التنبؤ به.
دعونا نتأمّلْ الرواية الفائزة بجائزة البوكر العام الماضي(2022): The Seven Moons of Maali Almeida للروائي السريلانكي شيهان كاروناتيلاكا Shehan Karunatilaka: هل هي رواية شبحية(ترويها شخصية غائبة) لأنّ الشخصية الرئيسية فيها ميتة؟ أم هي رواية إثارة لأنّ جزءاً مهمّاً منها تناول كيفية العثور على قاتل الشخصية الرئيسية؟ أم هي رواية تاريخية لأنّ وقائعها تجري خلال الحرب الاهلية السريلانكية؟ أم هي رواية تأملية لأنها تنقلُ إلى القارئ مشاهد بما يمكن أن يحصل بعد الحياة؟ كيف يمكن أن نصنّف روايات فائزين سابقين بجائزة البوكر مثل Lincolin in the Bardo للروائي جورج ساندرز  George Saunders ، أو Brief History of Seven Killings للروائي مارلون جيمس Marlon James ؟
إيجادُ طرقٍ لوصف الاعمال السردية(بمعنى تصنيفُها Categorising في أنواع روائية مشخّصة) ليس بالمعضلة في حدّ ذاته، وليس خيار إيجاد النوع الروائي -بالمفهوم الواسع للنوع الروائي- بمعضلة هو الآخر. إنّ فهم التقاليد الادبية التي تشكّلت على مدى قرونٍ مديدة وعبر ثقافاتٍ عديدة ليس بالأمر الاساسي لبلوغ طور البهجة والمتعة الناجزة عند قراءة عمل روائي محدّد؛ لكنّما يمكن لهذا الفهم أن يمدّ العون لمن يبتغي تحصّل فهم أعمق وأوسع للكيفية التي تتفاعل بها نصوص روائية مختلفة فيما بينها عبر أساليب وصور سردية متباينة ومتواترة في أعمال تبدو متباعدة عن بعضها. أظنُّ أنّ هؤلاء الساعين لمثل هذا الفهم الواسع والمعمّق، ومهما تكاثرت أعدادهم، سيبقون قلّة صغرى بالمقارنة مع الجمهور العام الشغوف بقراءة الاعمال الروائية. إنّ الدافع الممض الذي لا يمكن كبحه لتصنيف الاعمال الروائية في أصناف مشخّصة ومحدّدة أمرٌ له تأثيره المضاد لذيوع الاعمال الروائية لسببين على الاقل: السبب الاول، لأنّ يعمل على تعزيز حسّ التراتبية الروائية القائم على أساس فكرة وجود أعمال جادّة serious وأخرى غير جادّة. السبب الثاني، لأنّ هذا الجهد التصنيفي الروائي يتسبّبُ سنة بعد أخرى في التعتيم على -ومن ثمّ تناسي- المفهوم الجوهري للأدب ، وبكلّ أشكاله، والذي يرى أنّ الادب حالة صراعية بين الافكار والكلمات، تعتمدُ المُلاعبة والتفكّر والتجريب.
لن يعني أيٌّ من التفاصيل التي ذكرتها أعلاه أنّ المرء لن يستقي المتعة من تجواله الحرّ في المسالك الحافلة بالاغصان الشوكية والنباتات الغريبة في الغابات الادبية(الروائية بالتحديد)، وستتعاظم مناسيب المتعة الروائية في حالات الاغلاق Lockdowns ( كما حصل في وباء كوفيد 19 الاخير). وجدتُ من جانبي، خلال مرحلة الاغلاق الشامل الاخيرة، راحة عظمى في قراءة الروايات الحافلة بالاثارة والتي تتخذ ترتيبات أسَرية محدّدة: بطلة الرواية،مثلاً، والتي تبدو حياتها الظاهرية موضع حسد مستديم، تصبح عُرْضة لمجموعة من الاضطرابات غير القابلة للحل والتي تجعل حياتها جحيماً لا تطاقُ نتائجه( زوجٌ ذو طبائع سيئة لا تُحْتمل، تجديد سيء للمنزل جعل منه مكاناً غير مناسب للعيش، الفواتير التي لا تنفكّ تتضخّم بطريقة جنونية، أطفال ذوو نزعات تمرّدية خطيرة،،،،)، ثمّ يظهر في المشهد جار جديد ذو خواص جذابة تستثير الشهوات. أعجبتُ كثيراً بالكيفية التي تستطيع بها مثل هذه الروايات الكشف عن مجموعة مهمّة من بعض بواعث القلق في مجتمعاتنا البرجوازية المعاصرة: أقيام الملكيات الشخصية، التغيّر الجندري طويل الامد، التغيّرات الثقافية الخطيرة الحاصلة في المدارس، أسواق العمل الراكدة والطلب المتغيّر في هذه الاسواق على أعمال بعينها دون أخرى،،، . تخيّلوا معي الآن حجم الراحة التي شعرتُ بها بعد قراءة مثل الاعمال الروائية السابقة بعد أن ساهم حلول زائر غريب (المقصود هنا فايروس كوفيد 19، المترجمة) في جعلنا نكتشف أنّ حالتنا الراهنة قبل الجائحة لم تكن بذلك السوء الذي تصوّرناه بالمقارنة مع ما حصل بعد حلول الجائحة القاتلة.
ساهمت جائحة كوفيد 19 في دفعنا لقراءة أعمال روائية ربّما ما كنّا لنقرأها لولا الجائحة. صحيحٌ أنني قد أكونُ قرأتُ العديد من تلك الاعمال وتحصّلتُ منها على متعٍ يمكنُ وصفها بتلك العبارة الكئيبة الكابحة لكلّ بهجة روائية:أعني بذلك «المُتَع المذنبة Guilty Pleasures”؛ لأنني قرأتُ تلك الاعمال على عجالة وبسرعة أكبر ممّا أفعلُ في العادة عند قراءتي أعمال يون فوسيه Jon Fosse أو جيمس بالدوين James Baldwin أو إيزابل ويندر Isabel Wainder. الامر الجوهري الذي خرجتُ به من تلك القراءات، وكيفما كانت، هي ضرورة عدم التقليل من شأن التنويع في قراءاتنا الروائية Literary Variousness. كانت قراءاتي المتعدّدة والمتنوّعة خلال الجائحة،وببساطة شديدة، وجهاً آخر من أوجه حياتي في القراءة، حفّزت فيّ دافعاً مختلفاً عمّا عرفته، ومنحتني مكافأة لم أختبر سابقة لها من قبلُ. أمْرُ القراءات المختلفة والمتنوّعة والسريعة والتي تكسر السياق الروتيني يشبه إلى حدّ بعيد أن أكتفي بأكل بيضة مسلوقة في الغداء؛ لكنّي أغرقُ في الانشغال والتحضير لتتبيلة غذائية معقّدة وغير معروفة لي على العشاء!!. أو ربما يفيد مشهد آخر في تصوير الحالة: بعد أن تتمّ مشاهدة واحدة من الرومانتيكيات الكوميدية (الهزلية) تقرّرُ فجأة الانغماس في متابعة وثائقي يتطلّبُ تفكراً وإجهاداً ذهنياً حثيثاً. مثل هذه الحالات ليست تناقضات كما يظنها كثيرون. إنها خيارات عقلانية بالكامل وممكنة لهؤلاء الذين يمتلكون حظوظاً كافية تمكّنهم من عيش هذه الخيارات.
عدتُ في أيامي هذه (نوفمبر 2023) لقراءة رواية جديدة عنوانها مداريّ Orbital للروائية سامانثا هارفي Samantha Harvey،وهي -كما أرى- واحدةٌ من أفضل كتّاب الرواية المعاصرين. تجري وقائع هذه الرواية في الفضاء على متن مركبة مدارية تدور حول الارض، تحوي روّاد فضاء من بلدان وثقافات عديدة، يعانون تغيّرات جسدية وعقلية وعاطفية. الرواية الاخيرة المنشورة لهارفي هي الريح الغربية The Western Wind التي تتناولُ وقائع روائية تحصل عام1491 . لم تكتفِ هارفي بهذه التنويعات الروائية؛ فكتبت عن مرض ألزهايمر، وسقراط، والخيانة، ومعاناتها القاتلة من الارق. كيف ستصنّفُ أعمالها الروائية؟ هل تستطيع ذلك؟ أحدسُ أنك لن تستطيع.

  • ألكس كلارك Alex Clark: كاتبة متخصصة بالشؤون الثقافية، تكتب في صحيفة (غارديان) و(أوبزرفر).

** محاضرة رايث Reith Lecture: سلسلة محاضرات إذاعية سنوية تلقيها شخصية بارزة، تبثُّ في قنوات BBC   وإذاعة BBC . بدأت هذه السلسة في عام 1948 تكريماً لمساهمة جون رايث المدير العام الأول للمؤسسة في خدمة البث العام. تقوم هيئة الإذاعة البريطانية بشكل سنوي باستدعاء شخصية فكرية بارزة ليلقي مجموعة من المحاضرات للنقاش حول القضايا الاساسية ذات الاهتمام العالمي المشترك. (المترجمة)
الموضوع المترجم منشور في صحيفة (الغارديان) البريطانية بتاريخ 27 نوفمبر (تشرين ثاني) 2023 ضمن سلسلة The Big Idea الاسبوعية. العنوان الاصلي للمادة المنشورة باللغة الانكليزية هو:
Should we abolish literary genres?

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

العراق الثاني عربياً باستيراد الشاي الهندي

ريال مدريد يجدد عقد مودريتش بعد تخفيض راتبه

العثور على جرة أثرية يعود تاريخها لعصور قديمة في السليمانية

"وسط إهمال حكومي".. الأنبار تفتقر إلى المسارح الفنية

تحذيرات من ممارسة شائعة تضر بالاطفال

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram