اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > ويحدّثونك عن الاستعمار والغزو الثقافيّين

ويحدّثونك عن الاستعمار والغزو الثقافيّين

نشر في: 6 يونيو, 2024: 12:39 ص

حازم صاغية

بين ما يجمع العراق ولبنان اليوم أنّ البلدين يتعرّضان لهجوم مُركّب: من جهة، إعدام الدولة الوطنيّة وطمر جثّتها كي لا تنشأ مجدّداً، ومن جهة ثانية، قضم التاريخ والثقافة الوطنيّين أو تشويههما، وحرمانهما فرص التجدّد والانبعاث.
فقبل قرن، ومع نشأة البلدين، ساد ميل إلى إنشاء تسوية في التاريخ والثقافة تواكب التسوية على مستوى الاجتماع السياسيّ. هكذا مثلاً حضرت في كتب التاريخ الرسميّ الحقب الزمنيّة كلّها التي تعاقبت على رقعة البلدين الجغرافيّة، من تلك السابقة على المسيحيّة إلى ما بعد الفتح العربيّ. وفي الثقافة، بمعنى الكلمة الأوسع، تعايشت اتّجاهات إحياء التراث العربيّ، أدباً وشعراً وتصوّفاً، مع انفتاح على الثقافة الغربيّة وعلى مدارس التجريب الفنّيّ على أنواعها.
وبالتوازي، ساد في ظلّ الانتدابين الفرنسيّ والبريطانيّ ثمّ بعد نيل الاستقلال، اهتمامان متلازمان: واحد بالتركيب الفسيفسائيّ للجماعات، ما استدعى مخاطبة حساسيّاتها ومرجعيّاتها التاريخيّة، وآخر بأنّ يُحجز للبلدين موقع على خريطة العالم الثقافيّ. وبهذا حاول النتاجان الثقافيّان أن يصفا «ما نحن عليه» وأن يصفا، في الوقت نفسه، «ما نشارك الآخرين فيه».
وقبل أن تتولّى الثورة الإيرانيّة قيادة الهجوم على الدولة المشرقيّة، وعلى ثقافتها وروايتها للتاريخ، تولّت المهمّةَ الحركةُ القوميّة العربيّة المحتقنة. فالأخيرة في تأثّرها بالرواية القوميّة الألمانيّة – الإيطاليّة، أعلتْ راية القوميّة الناجزة، الواحدة الموحّدة، التي تصنع الدولة المرتجاة بعد هدم الدول القائمة. وهكذا فباسم الهويّة تُنبذ الهويّات الأخرى، وباسم الفتح العربيّ يُنبذ كلّ تاريخ سابق عليه. ومن البيئة هذه ظهرت الإدانة الممزوجة بالسخرية للفينيقيّين والأشوريّين والفراعنة، ومنها أيضاً ظهر الرفض لكلّ محاولة إبداعيّة تحاول تخفيف وطأة السياسة والقضايا الكبرى على الأدب والثقافة. ولم تنجُ من الاستهزاء والتهكّم لهجات بدت على شيء من التغرّب، أو شاء أصحابها مزج كلمات أجنبيّة بكلماتهم العربيّة المنطوقة.
على أنّ الوجهة التعدّديّة والحرّة صمدت في لبنان أكثر ممّا في العراق، وذلك بسبب إفلات اللبنانيّين من الانقلابات العسكريّة المؤدلجة. وحتّى حينما حلّت الحرب الأهليّة في 1975، تمكّنت الجماعات أن تستأنف الوجهة هذه ولو على نحو مجتزأ ومتقطّع وشديد الانتقائيّة. أمّا في العراق فتعرّضت الوجهة إيّاها التي رعاها الملك فيصل الأوّل، إلى هزّة أحدثها تولّي نجله غازي الأوّل العرش ما بين 1933 ووفاته في 1939، هو القوميّ العربيّ المضطرب والمعجب بالنماذج الفاشيّة. بعد ذاك بدأ مسار الانضواء في العتم مع مسلسل الانقلابات العسكريّة البعثيّة وغير البعثيّة التي افتُتحت عام 1963.
والحال أنّ الرغبة في تعطيل الاجتماع السياسيّ وفي منع قيام جماعة وطنيّة ضمن دولة أمّة سيّدة هو ما كان يحفّز هذا الميل الانعزاليّ المناهض للتعدّد وللحرّيّة. ذاك أنّ القضاء على جسمٍ ما يستدعي، بين ما يستدعيه، تشويه معناه واستئصال الغنى الذي تنمّ عنه كثرة أبعاده وربّما تضاربها.
وقد رأينا السيرورة هذه في لبنان والعراق خصوصاً، لكنْ أيضاً في مصر حيث تولّت القوى الإسلاميّة مهمّةَ الزجر قبل أن يتعهّدها جهاز الدولة الناصريّة. أمّا سوريّا، ورغم ذوبانها السياسيّ في 1958، قبل إخضاعها لتوالي الأنظمة العسكريّة، فلم ينشأ اضطرار موازٍ إلى تذويبها الثقافيّ. فإذا استثنينا الجماعة الكرديّة المهمّشة والمستبعَدة أصلاً، ظلّت العروبة، في صيغةٍ ما من صيغها، موضع تسليم لا تحظى به في البلدان الأخرى.
لكنْ عموماً، عبّرت تلك النيّة في الإبادة الثقافيّة لـ«سكّان أصليّين» عن نيّة أكبر في التخلّص من التجارب الوطنيّة التي تحضن الثقافة وترعاها. وبعد انتصار الثورة الخمينيّة، عام 1979، اكتسبت الرغبتان أنياباً أكبر وأقوى. وفي ظلّ ميلودراميّة المقاومة والدماء والأشلاء، بدأت عمليّة تحويل التأويل الواحد للذات وللعالم إلى تأويل أوحد، لا يتّسع لتناقض أو تفاوت. وكما لو أنّ المواطنين أطفال كبرت أجسامهم ولم تكبر عقولهم، طغت الأوامر والنواهي وما يجوز ولا يجوز، مع ما يصاحب ذلك من سفاسف وتفاهات، كالموقف من رأس أبي جعفر المنصور أو من ترجمة كتاب كتبه إسرائيليّ.
وهذا الذي يجري اليوم، في لبنان كما في العراق، هو التأسيس الثاني، بعد تأسيس البلدين قبل قرن. بيد أنّه تأسيس على شكل تفكيك: ذاك أنّ الإخضاع هو مبدأ هذا التأسيس الثاني بعدما كانت التسوية مبدأ التأسيس الأوّل، والإخضاعُ يفضي إلى الحروب الأهليّة أو، في الحدّ الأدنى، إلى اشتهائها.
وبقياس ما يُروى حاليّاً عن الاستعمار والغزو الثقافيّين، وفيه الكثير من الهرف بما لا نعرف، يمكن القول إنّ ما يعانيه العراقيّون واللبنانيّون راهناً ليس استعماراً وغزواً ثقافيّين. فمن جهة، هناك بين أبناء البلدين مَن يمارسون المهمّة متطوّعين، ومن جهة أخرى، يبدو وفاض هؤلاء خالياً وفارغاً تماماً بقياس ما امتلأت به جعبة الاستعمار.
عن الشرق الاوسط

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

اليوم ..خمس مباريات في انطلاق الجولة الـ 36 لدوري نجوم العراق

بدء التصويت في انتخابات فرنسا التشريعية

"واتساب" يختبر ميزة جديدة عند الفشل بارسال الصور والفيديوهات

تطوير لقاحات جديدة للقضاء على الحصبة نهائياً

الأونروا: سكان غزة فقدوا كل مقومات الحياة

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

المتفرجون أعلاه

جينز وقبعة وخطاب تحريضي

تأميم ساحة التحرير

زوجة أحمد القبانجي

الخارج ضد "اصلاحات دارون"

العمودالثامن: جمهورية بالاسم فقط

 علي حسين ماذا سيقول نوابنا وذكرى قيام الجمهورية العراقية ستصادف بعد أيام؟.. هل سيقولون للناس إننا بصدد مغادرة عصر الجمهوريات وإقامة الكانتونات الطائفية؟ ، بالتأكيد سيخرج خطباء السياسة ليقولوا للناس إنهم متأثرون لما...
علي حسين

قناديل: لعبةُ ميكانو أم توصيف قومي؟

 لطفية الدليمي أحياناً كثيرة يفكّرُ المرء في مغادرة عوالم التواصل الاجتماعي، أو في الاقل تحجيم زيارته لها وجعلها تقتصر على أيام معدودات في الشهر؛ لكنّ إغراءً بوجود منشورات ثرية يدفعه لتأجيل مغادرته. لديّ...
لطفية الدليمي

قناطر: بين خطابين قاتلين

طالب عبد العزيز سيكون العربُ متقدمين على كثير من شعوب الأرض بمعرفتهم، وإحاطتهم بما هم عليه، وما سيكونوا فيه في خطبة حكيمهم وخطيبهم الأكبر قس بن ساعدة الإيادي(حوالي 600 ميلادية، 23 سنة قبل الهجرة)...
طالب عبد العزيز

كيف يمكن انقاذ العراق من أزمته البيئية-المناخية الخانقة؟

خالد سليمان نحن لا زلنا في بداية فصل الصيف، انما "قهر الشمس الهابط"* يجبر السكان في الكثير من البلدان العربية، العراق ودول الخليج تحديداً، على البقاء بين جدران بيوتهم طوال النهار. في مدن مثل...
خالد سليمان
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram