ياسين طه حافظ
عبر كل تاريخ الحضارة، في الغرب وفي الشرق، كان مسعى الإنسان ابدا إلى البقاء حياً. إلى البقاء، فرداً أو جنساً بشرياً وإلى امتلاك القوة الفكرية والمادية الذي يمكنه من ضمان عيشه وتأمين سلامة حراكه. معنى هذا لحماية مقومات وجوده من أحداث الطبيعة، كالجدب والطوفان وتقلبات الطقس والقوى الخارجية. وكان المجتمع وكانت تجمعات البشرية واحدة من وسائل التمكن والحماية هذه، بعض يحتمي ببعض.
وهنا بدأت تستقر بعض الحقائق، بعض المعارف العلمية، لدى الجماعات وأفرادها. وهذه أولى ظواهر المشاركة العلمية بين الافراد. فالمعلومة المشتركة ملكية كل فرد وهو يزرع، وهو يصد انكسار الماء، وهو يطفئ الحريق، وهو يسعف مصاباً.
حتى الآن المجتمع متوازن، وثمة تعادل بين المشكلات المعتادة وحلولها. لكن التطور الحضاري والتقدم العلمي الحديث قلبا الموازنات في الشرق اكثر مما في الغرب. فالعلوم في الخارج وما يصل منها لنا هو النزر اليسير هذا النزر هو حصة المجتمعات البعيدة ان لم تُحرم منه تماماً، اذ لم يعد العلم نتاجاً محلياً معروفاً شائعاً. هذه علوم جديدة ولحدٍ كبير، ليست ذوات صلات يومية حميمة بارواح الناس وحياتهم.
هذا يعني بدء العزلة العلمية. فالعلم الحي والمتجدد، لا بد من أن يكون مرتبطاً بالمسائل التي تشغل المجتمع مادياً وفكرياً.
قد يكون هذا معروفاً وقرأنا مثله كثيراً. لكن الجديد الذي يحيرنا ويشغلنا، أن العزلة العلمية، أن انحسار وبعد الثقافة العلمية، أبقتا المجال واسعاً للثقافة الادبية بمستوياتها الشعبية واللغوية. فنحن إذاً أمام مجتمع منشغل باللغة وما يتفرع منها. ونحن منشغولون بالشعر، وما قيل ويقال فيه. ونحن نعيد صياغات ما قيل لنا من قبل أو نقوله كما لقنتنا القراءات الجديدة. وهزيل ذلك ومُعادهُ كثير.
المجتمع واجه نقصاً ثقافيا مهدِّداً وواسع التأثير من غير أن ننتبه لخطورة هذا التهديد. لقد بقينا في عزلة عن الثقافات العلمية بمستوياتها البحثية واليومية. وتوسع في الفراغ الأدب، والادب بمستواه التحريضي والعاطفي.
هذا أول خلل في التوازن المعرفي ونقص أساس في العناصر المغذية للاستنتاج والتفكير. لم نعد نملك منطقاً علمياً في النظر إلى الأشياء، ولا نفهم ما نرى فهماً علمياً. لا يزال الفعل للمروي وللإثارة ورد الفعل.
فالعلوم «الشعبية» التي كانت الغاها الزمن أو أضعفها. والثقافة العلمية الحديثة معزولة بعيدة. وما تدرّسه المدارس من مبادئ العلوم ليس له فعل يومي. هو لا يدخل في معركة العيش والممارسة العملية. هو غالباً دروس للامتحانات. والمجتمع بلا مجلات ثقافية عامة للعلوم ولا برامج ثقافية علمية واسعة لها شأن علمي واضح التأثير. واساتذة العلوم منصرفون لعملهم وعزلتهم البحثية، وهي نادرة، أو لمحاضراتهم وطلبتهم. فالعلوم ليست في الحياة اليومية. وقد أشرنا إلى أن الفضاء الواسع تُرِك للـ «الثقافة» الادبية ولمزيد من العزلة، حتى الفنون ليست في الحياة اليومية والدراسات الفكرية الحرة، بعيدةٌ ونادرةٌ هي ايضاً. مؤسفٌ أن العلم ليس الحجر الاساس في الثقافة العامة والتعليم.
وهنا دخلت الايديولوجيات السياسية، وجدت فضاءها، استحضرتها الحركات الوطنية للحرية وللاستقلال.. مما لم يتحقق حتى الآن، ولا أراه يتحقق ضمن العلاقات الدولية الجديدة وتطورها واشتباكها.
ليعذرني الاصدقاء في الأحزاب، فأنا أقدر جيداً أنهم أسهموا في تثقيف جماهير واسعة في الاقتصاد، وصراع الطبقات والشأن السياسي الدولي…، لكن هذا لا يمنع حقيقةً أخرى، هي أن الأيديولوجيات والثقافات الوطنية، بشتى اتجاهاتها أطبقت تماماً على أدمغة الناس مُشكلةً هي والأدب باتساعه وسطحيته، قوتان شعبيتان أغلقتا الآفاق الاخرى وأبعدتا الفلسفات والمعارف والعلوم.
ليس الفكر السياسي مداناً ولكن الإدانة لحال الانقطاع عن الثقافات والمعارف الأخرى. المثقف الأيديولوجي ما كان عليه أن يظل معزولاً عن الحيوية الحضارية، عن تاريخ الاديان والتطور البشري والفلسفات القديمة والجديدة والعلوم وحركات الاكتشافات الجديدة والثقافة العلمية العامة. هذه تُرصِّن التفكير وتمنح صاحبها قوة فهم واستقراء، مثلما تهبه نسغاً انسانياً دافئاً وآفاقاً واسعة للحياة والحياة المعاصرة تحديداً! فلا يباس عندئذ ولا شراسات وصِدامات وعنفَ اختلافات.
هل يعتقد أحد المندفعين، الوطنيين أو أي من غوغاء السياسة، بامكان تحولهم لاستعمال الطلقات والسكاكين، لو اتسعت ثقافتهم إلى ما ذكرناه واغتنت انسانيتهم بالذائقة الرفيعة والمعرفة والفنون وبالحضور الانساني الخصب وعبر تاريخ الانسانية العظيم؟ ابداً. بدليل أن المثقفين منهم اشمأزوا من أعمال العنف والحدّية في التفكير، ومن السوء والسفاهة والأخطاء كلها.
حين أقول إن قوتين ألجمتا الإنسان المحلي، هما السياسة والادب، باتساعه وسطحيته الغالبة، وتركتاه ينظر فقط إلى أمام أو إلى الطريق، الذي وضع فيه ليسلكه، فأنا لا أنكر الجوانب الكريمة لأيّ منهما، أعني السياسة والادب. بل أريد التأكيد على اغفال أو مصادرة الافاق الثقافية والمعرفية الاخرى، أو الاستهانة بها، مما أورثَ نقصاً عاماً، وهو نقصٌ أدى إلى القراءة الخطأ والفهم الخطأ والوطنية الخطأ!
نعم الفكر السياسي والنضال السياسي كشفا ما يحيق بالبلد، وما يخطط له وكيف يتم استغلال ومصادرة او نهب ثرواته. وأن الادب، وهو مجد ثقافتنا العربية والانسانية، وسّع المخيلات وغذى نفوس الناس و»امتعهم» روحياً، كما يقولون. لكن هذين «المفيدين» أضرّا حتى حين أفقدا الفرد رؤية جوانب الحضارة الأخرى وابقياه على مبعدّة من حقول المعرفة الأخرى، وأحيانا عن الفنون كلها، بل عن جمال الحياة. فلا اهتمام حقيقي جاد وفاعل بتاريخ الإنسان وتاريخ الأديان والأفكار والفلسفات ومراحل التطور المدني لتتسع الرؤية، وتتنوع وتغتني الثقافة. الايديولوجيا لم تمنع هذا، صحيح. هي لم تمنعه. والأدب لم يمنع هذا، صحيح ايضاً. ولكنهما شغلا الانسان عن تلك الثقافات المكمِّلة، والأساسية لكل فهم وتطور.
السياسة استغرقت الانسان العراقي، بل استهلكته. والادب، بما هو عليه، استهلك ما ظل من وعيه. هكذا تحددت الثقافة وتحدد البصر والبصيرة. وأنت ترى أي منطق للساسة في مناقشة الاشكالات الانسانية، والاجتماعية. وكم محدودة فقيرة هي الرؤى. وأي منطق قاصر لعموم الأدباء في فهم الاحداث والظواهر. وما يرددونه ليس قراءاتهم الشخصية ولا الفهم الشخصي المتميز، ولكن ما تشيعه الفضائيات وما ينشر «باجور» وبقصد، هذا عن النخب فما تقول عن العامة؟ ما كان يحصل هذا لو اتسعت الثقافة وتنوعت وكانت العلوم والمعارف متاحة للناس بنسبة اكبر. فمن غير جوانب الثقافة الاخرى والالمام المعرفي والفني نظل بلا قدرة استقراء ولا قدرة إحاطة وفهم ولا بذكاء يكفي لاستيعاب وفهم الظاهرة.
لو اقتربنا الى ما في العالم من فنون وافكار وهوايات ومظاهر مدنية، إذاً لاختلف السلوك مع الاخر وما استعملنا مع ابناء وطننا النار والسكاكين، ولا ظلت الخرافة في بيوتنا حتى اليوم، ولا بقينا نعيش على الآمال الكاذبة وكأنْ ستتحقق غداً!