حدثتكم عن ذلك الزبّال وصباغ الأحذية الذي أصبح أفضل رئيس للبرازيل. استهوتني سيرته الذاتية أكثر من قصة حياته. إنها دليل على أن من يخدم الناس ولا يستنكف، بل يشعر بالسعادة والفخر هو الأصلح لرئاستهم. فالمنصب الرئاسي، مهما حاول البعض أن يغلفه بألقاب وهالات من المدح والتمجيد، يظل في نهاية الأمر وظيفة كسائر الوظائف الخدمية، غير أنها تقع في أعلى مراتب السلم الوظيفي. من هنا نجد الذين يتولون مناصب عليا في الدولة يحرصون على كتابة سيرهم الذاتية وطرحها على الشعب كي يقتنع بهم. وغالبا ما يكون ذلك قبل أو أثناء ترشيح أنفسهم لتلك المناصب. هذا يحدث طبعا في الدول المتحضرة التي تحترم إنسانها وتخاطب عقله دون أن تستدر عواطفه أو تستغلها.
ومن اليوم الذي كتبت فيه عن لولا دا سيلفا البرازيلي غمرتني رغبة أن أطالع ما يقع بين يدي من السير الذاتية للحكام. وعلى قاعدة "الأقربون أولى" بدأت بالسيرة الذاتية لرئيس مجلس الوزراء نوري المالكي التي نشرها على موقعه الخاص. قبل أن أعطي انطباعي عما قرأته فيها وجدت أن الرجل، أو من كتب له سيرته، قد وقع في خطأ شائع، وهو عدم التفريق بين السيرة الذاتية وقصة الحياة. وهنا لا بد لي من أن ألجأ إلى اللغة الانكليزية لتوضيح الفرق.
السيرة الذاتية بالانكليزية هي curriculum vitae "كوريكولوم فيتي". وتوخيا للاختصار يكتبونها بالحرف الأول من كل كلمة فصارت CV "سي في". وتسمى أيضا resume "رزومي". تعني حصرا أنها وثيقة يكتب فيها، المتقدم لطلب عمل أو وظيفة ما، مؤهلاته التعليمية وخبراته الوظيفية .
أما قصة الحياة فهي بالإنكليزية bibliography "بيبليوكرافي". إنها أقرب لكتابة المذكرات الشخصية التي تسمح لصاحبها أن يكتب بها ما يشاء عن أمه أو أبيه أو جده أو حتى عن القابلة التي أولدته. باختصار شديد: على كاتب "السيرة الذاتية" أن يقول: "ها أنا ذا"، أما في "قصة الحياة" فيجوز له أن يقول: "كان أبي".
منذ قراءتي السطور الأولى في السيرة الذاتية للمالكي اتضح لي أنها قصة حياة سياسية وليست سيرة ذاتية كما جاء في عنوانها. لم يذكر بها الوظائف التي خدم بها الناس، ولا عدد السنين التي قضاها بالعمل، لنعرف إن كان مؤهلا حقا لرئاسة الوزراء.
بدأها بـ "كان جدي". ولأن جده أبو المحاسن كان شاعرا ووزيرا ومساهما في ثورة العشرين، فهذا برأيه يجعله مؤهلا لمنصب رئاسة الحكومة! ولا أدري أي علاقة موضوعية بين منصبه الوظيفي وما قدمه جده. وان كان من يقول أن هناك علاقة ما، فهذا يعني أن أحفاد الشعراء والوزراء والرؤساء السابقين هم "الأصلح" لإدارة شؤون الدولة إلى يوم يبعثون. لا أريد أن أكثر القول في استغرابي من هذا الربط، وسأتوقف قليلا عند بيت الشعر الذي اختاره المالكي من بين قصائد جده، ليضمنه "سيرته الذاتية".
البيت يقول:
ليس العراق بموطني هو وحده فبلاد قومي كلهن بلادي
أي ناقد أو متذوق أو مهتم بالشعر، لا أظنه سيرى أي صورة أو معنى استثنائيا فيه. فهو مشابه لأبيات كثيرة هي اقرب للشعارات "القومچية" منها للشعر. مثل: "بلاد العرب أوطاني" و "لست أدعو مسقط الرأس وطن وطني كل بلاد العرب". هذا إن لم يكن البيت، الذي تم اختياره أضعف منها من حيث اللغة والبنية الشعرية،
خلاصة قولي أني لم أسمع ولم أقرأ في سيرة ذاتية أن هناك من كتب بيتا شعريا لجده أو لأبيه أو حتى لنفسه ليثبت به أنه جدير بوظيفته. لكن من يدري؟ فلعل للعراق في حكامه شؤوناً.
" سي في " الحاكم
[post-views]
نشر في: 5 ديسمبر, 2012: 08:00 م