طالب عبد العزيز
تكاد كتبُ التاريخ الخاصة بالبصرة أنْ تنحصر بما قرأناه عن تأسيس المدينة سنة 14 هــ، داخل حدودها آنذاك، المحصورة بين رملة الزبير ونهر الابلة ومدينة المختارة بابي الخصيب، ومن ثم التحولات التي طرأت على حياة الناس، والغنى الذي تنعّم به سكانها، بعد فتح بلاد فارس، واستقرار المهاجرين قرب الانهار، وبناء المسجد الجامع، وجملة الحوادث التي أعقبت حرب القادسية، وما كان لها في القرنين الثالث والرابع الهجريين، من في علوم الدين والقرآن واللغة والحديث والشعر والادب.. وهي وقائع أشبعت بحثاً، وصدرت عنها الكتب والبحوث الكثيرة.
ظلت الجزر والقرى والقصبات البعيدة والمحاطة بالماء مثل قضاء القرنة وتوابعه 75 كم شمال البصرة خارج اهتمام المؤرخين والباحثين، آيتهم وذرائعهم في ذلك تكاد تنحصر بالجغرافيا، وشحِّ أو ندرة المعلومات التاريخية، لذلك كان نصيبها قليلاً جداً. في مقدمة كتابه عن ناحية(المْدَيْنَة) ُمصغّر مدينة، وهي إحدى قرى قضاء القرنة، شمال البصرة، يكتب الدكتور مشتاق عيدان إهداءً بالغ الجمال: "الى الذين يعملون بصمت خدمةً للإنسانية". وفي مقدمة كتابه (على الدرب- العراق في العهدين الملكي والجمهوري- مذكرات العميد الركن عامر حسك الامارة(1907-1982)) يكتب: " إلى كل من يشاركنا السعي خدمةً للعراق" وفي تقديمه لكتابه(خندق الذاكرة، السيرة الشخصية والعسكرية للواء الركن رشاش جياد الامارة يكتب: إلى كل من حمل العراق بين جنبيه فصار علماً" وهكذا، يشعرنا الباحث والمؤرخ عيدان بأنتمائه الانساني والعراقي في جملة الكتب التي أصدرها.
في مبحثه الاول من كتابه (المْدَيْنَة) والمعنون جزائر البصرة(1546-1633) سنعرفُ أنَّ إمارةً شيعيةً تأسست هناك في منطقة الجزائر، منذ القرن الخامس الميلادي، باسم إمارة آل عليّان، ولأمرائها وشيوخها مراسلات ومخاطبات مع الولاة العثمانيين، وكذلك مع ولاة إمارة أفرو سياب(1595 ـ 1668) التي حكمت البصرة، وأن الامارة سقطت في عهد شيخها شحل بن عليان، الذي تنازل الى المشعشعين. وفي الكتاب يقسِّم الباحث المجتمع الى أربع طبقات هم آل عليان، ورجال الدين، والفلاحين، والصابئة، ثم لا يبخل علينا فيذكر ما كتبه الرحالة الاجانب، الذين مروا بالمِدَينَة، فضلاً عن ما ذكره المؤرخون العرب عنها مثل عباس العزاوي وطارق نافع الحمداني وفتح الله الكعبي وسواهم، وكلها معلومات ذات قيمة تاريخية بالغة.
معلوم أنَّه من مهام الباحث والمؤرخ إطلاعنا على المسكوت عنه، وغير المدوّن، وفك ألغاز الحوادث، وتقديم الرموز، التي صنعت تواريخ المدن، ففي الحرب الايرانية –العراقية كنا نسمع عن شخصية الضابط الكبير اللواء رشاش الإمارة، مع ما نسمع من أخبار الحرب، ومثله ما سمعناه عن الضباط والقادة الكبار أمثال عبد الجبار شنشل، وبارق الحاج حنطة، وماهر عبد الرشيد، وهشام صباح الفخري وسواهم، ولسنا هنا في وارد مواقفهم من النظام، الذي كان قائماً آنذاك، والحديث عن بطولاتهم، لكنَّه كان موفقاً في تسليط الضوء على الجانب الآخر من حياتهم، التي تنطوي -وبكل تأكيد- على جملة وقائع، لم نقرأ عنها، لكنها صنعت تاريخنا بما فيه، وما عليه.
في كتابه الذي جمع فيه مذكرات العميد الركن عامر حسك الإمارة(1907 1982) وهو دراسة وتحقيق حدثني د. مشتاق عن جهده وعنائه في جمع الوثائق والمراسلات والمخاطبات والأحاديث والتواريخ والأمكنة التي تخص العميد(الامارة) وكلها مكتوبة بخط أتى الدهر على أوراقه، فيطلعنا على شخصية بصرية، عسكرية، مختلفة، ربما كانت من أوائل الشخصيات الشيعية التي قبلت في الجيش العراقي، ابان العهد الملكي، وتقلدت أرفع المناصب، بينها انه كان آمر حامية البصرة، وآمر لواء اليرموك الاول، في جيش الانقاذ، بفلسطين، سنة 1948ومدير مصلحة نقل الركاب1956-1958 وقائد شرطة البصرة 1959ومتصرف لواء السليمانية 1966 ومتصرف لواء الناصرية 1966-1967.
في الكتاب هذا يطلعنا الباحث على وقائع كان الرجل ذو النزوع القومي شاهداً ومشاركا فيها، ليس أولها ثورة مايس 1940 وتطوعه في حرب تحرير فلسطين عام 1948 وليس آخرها النفي والسجن والاحالة على التقاعد ومن ثم مشاركته في الحياة العسكرية والمدنية بعد ثورة تموز 1958 وفي صفحات الكتاب التي ناهزت الـ 700 صفحة صور تجمعه مع قادة، ورؤساء عرب، كبار بينهم عبد الكريم قاسم، ووصفي التل، وشكري القوتلي، وفوزي القاوقجي قائد جيش الانقاد في فلسطين. وبعد فالكتاب جهد معرفي ممتع، جمع الباحثُ فيه ما لا نتوقعه من حياة هذا الضابط الكبير.
يقوم البحث التاريخي على متوالية المكان والشخوص والاحداث، لذلك أسس الباحث للمكان شمال البصرة(القرنة- المدينة) جغرافياً وتأريخياً ثم جاء بالشخصيات (إمارة آل عليّان، عامر حسك، ورشاش الامارة وسواهم، ثم عزز بهؤلاء الحوادثَ التي صنعت تاريخ المكان. ربما لم تفصح زعامات بعض الاسر الاقطاعية التي تضررت بأحداث ثورة تموز العام 1958 لكنها كانت تضمر البغضاء لها بكل تأكيد، ويشدها حنين خاص الى العهد الملكي، لكنَّ ارتباط الضابط رشاش جياد الامارة المولود في 1937 والطالب في مرحلة الاعدادية أثناء قيام تموز 1958بالملكية والاقطاع كان متأخراً وضعيفاً، تغلب عليه بحسه الوطني والعراقي، وحتى وجوده كقائد كبير في الحرب مع إيران لم يمنعه من الاحالة الى التقاعد، وقطع علاقته بالمؤسسة العسكرية عام 1989 بل ولم يعصمه كذلك من تهم المشاركة في انتفاضة العام والسجن عام 1991. كتب الدكتور مشتاق عيدان اعبيد مفخرة لكل باحث وقارئ.