اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > متى تكتبُ النوفيلا؟

متى تكتبُ النوفيلا؟

نشر في: 9 يونيو, 2024: 12:00 ص

كه يلان محمد
لاتتفقُ الآراءُ حول مواصفات النوفيلا، ولاتوجدُ قواعدُ محددة لتركيبة هذا الشكل الأدبي المتوسط بين الرواية والقصة القصيرة.وبالتالي يبدوُ أنَّ المصطلحُ فضفاض يتسعُ للمساعي النقدية ويغري بالانزياحات في الكتابة الإبداعية،وقد يذهبُ الظنُ بالمتابعِ لأول وهلةٍ إلى أنَّ كل مايتطلبهُ بناءُ النوفيلا هو تحديدُ البعد المكاني الذي تتحركُ فيه الشخصيات المعدودة.أما بالنسبة لعنصر الزمن فإنَّه يتخذُ إيقاعه داخل التشكيلة السردية عامةً،ويمكنُ لهذا الرأي المحاججة بأعمال الكاتب النمساوي "ستيفان زفايغ" الذي تنهضُ نصوصه المروية على إضاءة الحلقة المكانية. وهذا مايتجلى أكثر في "لاعب الشظرنج" و"السرق الحارق" و"أربع وعشرون ساعةً في حياة إمرأة" كذلك الأمر بالنسبة لنوفيلا "الكرنك" لنجيب محفوظ إذ يغدو المقهى بؤرةً للخطابات المتعددة.، وفي الواقع هذا ليس ملمحاً للنوفيلا دون غيرها لأنَّ المكان يلعبُ دوراً لافتاً في العديد من الروايات الطويلة وغالباً ماتنمُ العناوين بمايعني المكانُ في جغرافية المتن وهنا من المناسب الإشارة إلى ماينتهجهُ الكاتبُ المصري علاء الأسواني في رواياته إذ يكون البعد المكاني مفتاحاً لمعرفة بصمته السردية.ربما الخيط الذي يميزُ بين شكل المكان في الرواية وتمظهره في النوفيلا أنَّ مادة النوفيلا لاتتطلب الامتداد في الفضاء المكاني ويتموضعُ فيها الراوي بزاويةً معينةً يسحبُ إليها صورالأمكنة الأخرى والأصوات غير المشاركة في بُنية النص فيما تستدعي شبكة الشخصيات في الرواية النهرية مرونة المكان وتلبيته للمنحى الاستكشافي لآلة السرد.أكثر من ذلك إذا سلمنا بأنَّ أسلوب الكتابة يتبعُ المزاج وحركة الشعور يمكنُ القولُ بأنَّ الرواية بتفاصيلها المكونة من القصص الفرعية يناسبُها مزاجُ ملحمي بالمقابل تستجيبُ النوفيلا للمزاج الغنائي الأمر الذي يُدركُ بالوضوح في كتابات ماركيز الأخيرة خصوصاً عمله المعنون ب"ذاكرة غانياتي الحزينات" ومايضفي نبرة غنائية لهذا النص هو أن صوت الراوي لايكونُ مراقباً للحدث فحسب بل هو مشاركُ في سلسلة الوقائع التي يسردها بالضمير الأول.كما تتجلى وظيفة المعطيات السردية بأكملها في إضاءة شخصية المُتكلم ومعنى ذلك أنَّ الحس الذاتي غالبُ على النص.
فيزياء التأليف
الجملة الافتتاحية في النص السردي تنبيءُ بالأجواء التي تسودُ فيه،لذلك يهمُ المؤلفَ ذوبان الجليد من الرمية الأولى بين المعطي الإبداعي والمُتلقي ونذكر رواية "من قتل بالمومينو موليرو" لماريو بارغاس يوسا مثالاً على التفوق في التلميح بخط الرواية وجيناتها من الاستهلال إذ يكون الحدث مزنراً للمسافة الزمنية التي يستغرقها السردُ ويتبعُ سقف توقع القارىء مقتل المغني الذي راح ضحية لعقدة الكولونيل ميندرياو وشخصيته الموتورة وما يعمق من أزمته هو هروب ابنته أليسا مع بالومينو.بالطبع تكتسبُ هذه الاستراتجيةُ أهميةً أكثر في تأليف النوفيلا إذ يبدأُ السردُ في "ذاكرة غانياتي الحزينات" منطلقاً من مناسبة عيد ميلاد الراوي وهو على عتبة التسعين من العمر يريدُ أن يحتفلَ باستقبال سنة جديدة من حياته في طقس مُفعم بالرومانسية ويهدي إلى نفسه ليلة حب مجنون والطريق نحو مَرْبَعِ اللذة يبدأُ بالتواصل مع كارباكاس صاحبة بيت سري وهي تخبرُ زبائنها عندما يكون تحت تصرفها جديدُ.لم يستسلم الراوي لأغراءات صاحبة النزل وهو يؤكد على ذلك يتذكر كلامها المتشكك بنقاء أخلاقه مرددة بأنَّ الأخلاق مسألة الزمن أيضاً.وبعد مرور عشرين عاماً حين تسمعُ صوته تتنهدُ مستغربة من غيابه لهذه المدة الطويلة ومن ثمَّ يطلبُ مستحيلات ويبوحُ برغبته في قضاء الليلة مع فتاة عذراء إلى هنا ينعطفُ السردُ المنساب بلغة شفيفة صوب متابعة الشخصية الرئيسة.إذ يكشفُ المتكلمُ عن المكان الذي يعيشُ فيه فقد ورث البيت من أبويه ويمضي أيامه وحيداً تحت سقفه بعد رحيل الإثنين متخذا القرار أن يلفظ أنفاسه الأخيرة في ذات المكان الذي أبصر فيه الدنيا. مستعيداً في هذا الإطار قصة لقاء والده مع إبنة أحد الإيطاليين فلورينا دي ديوس كارغامنتوس فالأخيرة كانت عازفة ماهرة لموسيقى موزارت ومتعددة اللغات والمرأة الأكثر جمالاً والأفضل موهبة في المدينة قاطبةً.مايقدمه الراوي عن نشأته وجذور أمه الإيطالية هو جزءُ من ورقة اعتماده السيرية ولايختمُ هذا التفصيل دون الإشارة إلى بيع كل ما فاض عن حاجته من البيت باستثناء الكُتب وأرغن اللفافات.ولايفصلُ بين هذا المقطع ومايقوله الراوي لاحقاً أي جملة اعتراضية بل ينتقل الراوي مباشرةً إلى العمل الذي يزاوله في جريدة دياريو دي لاباث طوال أربعين سنةً.مصححا للبرقيات.كما عمِلَ كأستاذ نحو قشتالي ولاتيني معلناً بأنَّه لم يفعلْ شيئاَ غير الكتابة مع ذلك لايملكُ موهبة الروائي ولامزيته.وتستشفُ مما يرويه هاجساً لازمه منذ طفولته فإنَّ القمل الذي يتكاثر في الشعر يهربُ على الوسائد عندما يموت الشخص.وهذا ماحدا به أن يقص شعره دائماً.وبذلك يتسلسلُ السردُ منتظماً في متابعة الشخصية المنفردة بمسرح النص.ولايُثقل الوطأة على المناخ المُتخيل بالصور الفنية المُفتعلة ولا بالانتفاخ المعلوماتي أما الإشارات الواردة إلى الشخصيات والأحداث التاريخية فهي لاتنبو عن السياق العام يوميء الراوي إلى معاهدة نيرلانديا التي وضعت حداً لحرب الألف يوم لأنَّ توقيعها كان متزامناً مع موت والده.ويظهرماركيز بأنَّه أريب في الانفتاح على تقنية ميتا السرد.حينَ يصرفُ اهتمام المتلقي إلى فرضيات الراوي بشأن مشروع كتابة قصة مستمدة مادتها مما يسميه بسجلات الفراش.هنا يعيدُ المتنُ خط الراوية إلى مفردة العنوان لأنَّ "ذاكرة غانياتي الحزينات" هي الجملة التي يستلهمها التسعيني عنواناً لقصة غرامياته التي في أغلبها لم تكنْ بدون المقابل.وعلاقته مع داميانا من أغرب قصصه العاطفية التي تتداخل مع القراءة و ذلك يوحي بالبعد الاكتشافي في الحب والمعرفة. ومن نافلةِ القول بأنَّ الزمنَ هو الموتيف الناظم لمجمل مروية ماركيز وهذا مايتضحُ من الافتتاحية.كما يمكن الاستدلال على إيقاع الزمن بالصور التي تنمُ عن مكره يقولُ الراوي "لم أفكر قط في السن على أنها ثقب في السقف يقطر الماءُ منه،لينبه أحدنا إلى كمية الحياة الآخذة بالتبقي له" وفي مفصل آخر يستردُ المتكلمُ فحوى الحوار الذي يدور بينه وبين أمه التي كانت ترجوه أن يتزوج ليكونَ أباً لطفلة تحملُ اسمها لكن فكرته المرنة عن الشباب أوهمت له بأنَّ الوقت متاحُ باستمرار إلى أن يخطيء في الباب الذي يمتلكه آل بالوماريس.وهذا الخطأ يتولدُ منه حب يخذله.لعلَّ ما يشهدُ على افتراس الزمن بالراوي هو المقطع الناضح بالتداعي الذهني "خلافاً لقطع الأثاث، خلافا لي أنا بالذات تبدو المنضدة التي أكتب عليها في أحسن صحة مع مرور الزمن"
شعرية اللغة
الكثافة في التعبير من مقومات اللغة في النوفيلا كما أنَّ التمثيل البصري في صياغة الجملة تفعلُ الطاقة الإيحائية وتضيفُ نفساً شعرياً شفافاً إلى جرس الكلمة ومايقوله ماركيز عن الرواية بأنها يجبُ أن تكون وصفاً شعرياً للواقع ينطبقُ على النوفيلا أكثر وفعلياً تَتَمَثَل "ذاكرة غانياتي الحزينات" لهذا المبدأ وذلك من خلال الإحالات الخاطفة إلى الأغاني والمقطوعات الموسيقية واللوحات والأعمال الأدبية التي يبدأ بقراءتها الراوي مع اعترافه بأنَّه في مرحلة الصبا كان ينفر منها عندما أرادت الأم فرضها عليه،والنغمة الشعرية تنداحُ على جسد النوفيلا حين يهيمُ الراوي بالطفلة التي يسميها ديلغادينا وهي تعيل أهلها مما تكسبه من تثبيت الأزرار في المصنع.بخلاف بطل رواية "لوليتا" لنابوكوف لايقعُ الصحافي العجوز في "ذكرى غانياتي الحزينات" في مطب شهوانية متصابية ويصفو تواصله مع الصبية من الشبقية لأنَّ النهم الجنسي لايكون دافعه إلا البحث عن العزاء عندما يغيبُ الحب. ومايجدرُ بالإشارة في هذا المقام أنَّ أخر مانشر لماركيز بعنوان "موعدنا في شهر آب" تتقاطع خطوطه مع "ذاكرة غانياتي الحزينات" ليس إدراجهما ضمن صنف الروايات القصيرة هو المشترك الوحيد بين العملين إنما الأجواء المشحونة بالغنائية والحديث عن الرواية داخل النص الروائي وتكرار الإيماءة إلى شهر آب كل ذلك هو ما يضع النصين على إيقاع واحد.ومن المفارقات التي يذكرها يان ليانكه في كتابه "استكشافا للرواية" أن الشعر قد استحوذ على معظم اهتمامات ماركيز قبل أنَّ يقرأ نوفيلا "التحول" غير أن معرفته بكافكا تنعطف بماركيز نحو عالم الرواية وهنا يتبادر السؤالُ إلى الذهن لماذا لم يفتتحْ صاحب " مئة عام من العزلة " مسيرته الأدبية بكتابة النوفيلا ولجأ إلى هذا النوع الأدبي في سنواته الأخيرة؟ّ! ربما أن السبب يكمنُ في متطلبات تأليف النوفيلا في مقدمتها الإيجازفي اللغة واختمار الحس الفني،والصياغة الموسيقية.وأخيرا اذا صحَّ الاعتماد على معجم اللعبة لتحديد الفرق بين الرواية والنوفيلا يمكن القول بأنَّ النص الروائي يقومُ على تمريرات طويلة ومساحتهُ تعادلُ الملعب بأكمله أما النفويلا يقومُ على تمريرات قصيرة ومجال الحركة في تشكيلتها هو بحدود منطقة العمليات في الملعب. أي أن العدسة تتابع مايقوم عليه الحبكة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

العراق الثاني عربياً باستيراد الشاي الهندي

ريال مدريد يجدد عقد مودريتش بعد تخفيض راتبه

العثور على جرة أثرية يعود تاريخها لعصور قديمة في السليمانية

"وسط إهمال حكومي".. الأنبار تفتقر إلى المسارح الفنية

تحذيرات من ممارسة شائعة تضر بالاطفال

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram