اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > الحيوان في السرد غير الطبيعي

الحيوان في السرد غير الطبيعي

نشر في: 9 يونيو, 2024: 12:00 ص

د. نادية هناوي
كثيرة هي الروايات العربية المعاصرة التي تتجاوز محاكاة الواقع بنزعة غرائبية أو ساخرة الى اللامحاكاة متخذة من الحيوان أداة في بناء وجهة نظر ايديولوجية يحقق الكاتب من خلالها أغراضا رمزية هي أما أخلاقية أو ايديولوجية مما نجده في القصص والروايات التي فيها يكون للحيوان بعد رمزي-سواء كان الحيوان مؤنسنا أو غير مؤنسن، مسرودا مساندا أو ساردا بطلا- وعادة ما تكون للشخصية الحيوانية المركزية في البناء الفني.
ومن ذلك مثلا رواية(هاتف المغيب) لجمال الغيطاني، وفيها يؤقلم الكاتب تقاليد السرد القديم ويجعل الحيوان أداة في تجسيد لا واقعية قصة جمال بن عبد الله وإخوته السبعة(حدث جمال بن عبد الله كاتب بلاد الغرب فقال: المؤكد انه جاء من المشرق لم يرد الينا أي انسان من جهة الغرب.. هذا ما ترويه الحكايات عن اخوة سبعة بنوا بأيديهم سفينة عجيبة عرفوا برجال البرية واختلفت الآراء حول اختفائهم) ويفصِّل السارد العليم في قصة أحد الاخوة وهو احمد بن عبد الله ويتخذ السارد العليم من الطير وسيلة لتجسيد غرائبية الواقع(أغرب ما تردد من زواجه من الطيور. . وانجب ابناء شتى نصفهم طير ونصفهم ادمي كلام عجيب لم ينفه الوالد ولم يؤكده)
وتتضح وجهة النظر الايديولوجية في توظيف الحيوان في رواية(هوت ماروك) لياسين عدنان عبر اضفاء أوصاف حيوانية على البشر، وهو ما احترفه البطل(رحال) فكان يستعير للآخرين صورا حيوانية بها يعبر عن ردة فعله إزاء الاخرين الذين يصفونه بالحيوان. ولا يستاء سوى من صنف الحيوان الذي به يوصف(لم يكن رحال يفهم لماذا يشبهه البعض بالقرد ولا كيف ينعته اخرون بالجرذ تضايقه هذه الاوصاف غالبا ما يتلقاها كشتائم لكنه لا يتأثر بها. فرحال يجد نفسه اقرب الى السنجاب منه الى أي حيوان اخر وكل حديث عن القرد والفار والجرذ وحتى الضفدع كما نعته مرة جاره) وما يساعد(رحال) عينه اللاقطة التي بها يقارب مزايا الحيوان بملامح البشر، وتساعده في ذلك معرفته بعالم الحيوان فيرى نفسه سنجابا(لا يمكن لبجعة ان تنجب سنجابا من سرعوف هذا قانون الطبيعة) أو قوله: (أنا سنجاب ولست سمكة لأنام بعينيين مفتوحتين لم يعد رحال واثقا من شيء: سنجاب ام سمكة؟ سمكة تتخبط في شبكة).
ويصنف السنجاب في فئة القوارض لا فصيلة الفأريات ويعلل الامر بأن السنجاب أرفع شأنا من ناحية (الاخلاق والسلوك وفن العيش وكذا في التطلعات العميقة للحيوان مما يؤثر بشكل لا شعوري على سلوك الانسان المرادف له وادائه في العمل والحياة مثلا هناك نوع من السناجب تطير فهل تطير الجرذان)
وما من شخصية في الرواية إلا ورحال يعطيها صورة حيوانية فعزيز كلب سلوقي وحسنية بن ميمون بقرة(فالبقرة تستخدم في الحرف وشق الارض في الجر وإدارة الطاحونة ولا تمنع ضرعها وحليبها عن عجل ولا ادمي كما تمنح بعد الذبح لحمها وشحمها بل وجلدها ايضا لمن يطلبه فما الذي يمنع بقره الرفاق من الوفاء لطبيعتها) وفي موضع آخر يرى في حسنية ملامح قنفذ ويحتار(كيف يقنع حسنية بانه ليس كلبا ولا ثعلبا تشهر في وجهه سهام شوكها بل مجرد سنجاب مسالم وديع لا خوف منه) ويشبه المخلوفي بالفيل فهو كتلة لحمية بجلد سميك وساقين غليظتين متورمتين.
وكلما غاص السارد العليم في دواخل (رحال) ازدادت احترافية رحال في التشبيه، فيدقق في الخصائص الجوهرية التي تجعل الصلة ما بين المتحدث وحيوانه المستخفي أكثر وضوحا، وغايته أن يعيد البشر إلى حيواناتهم الأصلية. ويعجبه الشعر الذي يرد الناس الى أصولهم الحيوانية ويتهكم من الحلقة الشيوعية ويرى افرادها بأشكال حيوانية. وتنتهي الرواية وقد استبق السارد العليم مستقبل رحال في ظل التقدم التكنولوجي(ستنجب جرذا يشبهك سنجابا خاملا بعينين فارتين يركض وراءك وهو يزعق)
وتتخذ رواية(نزهة الدولفين) ليوسف المحيميد من الدولفين أداة بها يتهكم السارد العليم من شخصياته عبر ما يضفيه عليها من مزايا الدولفين ( كان ظهر دولفينه / يده كالدلفين الاحدب / تخلص الدولفين ذو البطن القرنفلي الفاتح من مياه يدها وقد احمر خجلا/ كان دولفينها يحب اللهو واللعب مع الناس / كان دولفينها العائم في الاقنية / يتمسح بظهره الطري بكل ما يقترب منه/ رمت دولفينها لأول مرة قرب يده / أنفاس الدلافين الساخنة تفضي بشيء سري وسحري)
وقد يكون الحيوان مؤنسا وساردا ذاتيا يلعب دور البطولة مما نجده في السرد غير الواقعي وبوجهة نظر ايديولوجية، كما في رواية(خلدولوجيا) لسعد سعيد وتتضح اللامحاكاة بدءا من الاهداء(إلى جميع الحيوانات الضالة عسى أن ترعوي) ومرورا بالسرد الاوتوبوغرافي الموضوع على لسان حيوان الخلد فيحكي بضمير الأنا قصة حياته (أنا خلد ولا أرى لذكر اسمي داعيا لأنه لا يغير من الأمر شيئا منهم لا أعرف ما هو الخلد فنحن لا نرى لأننا نعيش في جحور وحياتنا عبارة عن أنفاق لا نهاية لها).
وعلى الرغم من مركزية الحيوان ساردا، فان ذلك لم ينفع في أن يبني لنفسه منظورا نفسيا بسبب غلبة الأيديولوجيا عليه(لو عرفتم مداه لقل حقدكم على الخلدة بسبب تصوركم انهم اغنياء جميعا وانهم يمتلكون ما لا يستحقون صدقوني أنا منفعل جدا اليوم ولذلك لم أجد في نفسي الرغبة في تناول الخمر أو المخدرات) واللاواقعية تجعل الخلد مفكرا في الواقع وفي ما وراء الواقع فيكون حينا مصلحا اجتماعيا ينتقد أبناء جلدته الذين يسكنون المدن لأنهم يتصرفون كالبشر ويشرح سلوكيات خاطئة(أنا لا استطيع أن أتصور سببا يجعل عاقلا ينهي حياته بنفسه فالحياة أعلى من أن نفرط بها بهذه السهولة. أنا أقول هذا وحياتي بسيطة وبها الكثير من التعقيدات والمخاوف) وحينا آخر يغدو حيوان (الخلد) مفكرا يجادل الافعوان فلسفيا فيظهر الاخير كرجل حكيم يأتي بقصة عن الصقر الذي علّم الطيور أن تطير فيكتسب الخلد خبرة جديدة(فشعرت بأني كائن آخر كائن سعيد ومسكون بروح وثابة وسامية وبقيت في تلك العلياء أطير بلا خوف ولا هموم) وتنتهي الرواية وقد تحول الخلد إلى افعوان حكيم، وفي ذلك إشارة إلى ما للجدل من دور في توجيه الفكر وتقرير المصير.
واذا كانت النزعة الايديولوجية قد غلبت على السرد الاوتوبوغرافي في الرواية، فإنها ايضا غالبة في بناء القصة القصيرة كما في قصة(المثقف والكلاب)لصادق الطريحي وفيها يلعب الكلب دور الناقد المعترض على الكاتب نجيب محفوظ أنه وظفه مسرودا في رواية(اللص والكلاب)(لست كلبا الان لست كلبا على الاطلاق هذا ما أود أن أقوله لكم فأنا أحب الصراحة وأحب الرجل ولا اتمنى له أي مكروه. . لكنني لست كلبا. . فقد صرت ساردا جديدا في السردية الاقليمية. . وكتب عن تجربتي السردية الكثير من النقاد الخافرين في ردهة الحداثة العربية وما بعدها) ويستمر في نقده معترضا على دوره السردي هامشا وأن في ذلك ظلما كبيرا له يجعله في موضع المواجهة لرد الاعتبار واستعادة الحق. بيد أن الواقعية تغلب على الأحداث فينحرف السرد عن خطه اللاواقعي باتجاه مسائل سياسية لها صلة بالأحزاب والربيع العربي والدولة والحرب والصلاة والمجتمع. وعلى الرغم من عودة السارد في خاتمة القصة إلى مساره الأول كلبا يعترض على دوره الثانوي في رواية اللص والكلاب، فإن ذلك لم يؤثر في تغيير وجهة النظر الايديولوجية فكان الواقع هو الغاية، والحيوان وسيلته.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

العراق الثاني عربياً باستيراد الشاي الهندي

ريال مدريد يجدد عقد مودريتش بعد تخفيض راتبه

العثور على جرة أثرية يعود تاريخها لعصور قديمة في السليمانية

"وسط إهمال حكومي".. الأنبار تفتقر إلى المسارح الفنية

تحذيرات من ممارسة شائعة تضر بالاطفال

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram