لطفية الدليمي
الحياة في العراق قريبة كثيراً من أن تكون لعبة (حيّة ودرج) بمقياس كبير. هذه اللعبة (حيّة ودرج & ) ليست ابتكاراً عراقياً إختصّه العراقيون لأنفسهم. هي لعبة عالمية واسعة النطاق. الفرق أنّ العراقيين رفعوها من مستوى اللعبة الشعبية البسيطة التي لاتتطلب تأهيلاً عالياً وجعلوها نمطاً مميزاً لحياتهم في العقود الاربعة الاخيرة على الاقل.
الحياة في العراق خلال هذه العقود الاربعة لم تكن محكومة بضوابط العمل الجاد والمنظّم والمنضبط كما كان الحال في العقود التي سبقتها. أطيح بالبناء المؤسساتي الرصين لميراث الدولة العراقية، وجُعِل التحزّب الاصولي السقيم والموالاة الشخصية الرقيعة للرأس الاكبر في الدولة (الحكومة. لا فرق. فقد ابتلعت الحكومة الدولة!!) هو المقياس السائد والمطلوب تعميمه على نطاق واسع. صار القانون الحاكم هو التالي: لو عرفتَ كيف تركب الموجة فيمكنك في وقت قياسي قصير أن تصبح وزيرا او كيل وزارة أومديراً عاماً أو مستشارا(لا يداوم و لا يُستشار! !)، وستتيح لك هذه المواقع صعود (الدرج) قصيراً كان أم طويلاً. ربما يبدأ أحدهم بدرج قصير ثم يتفنّن في اختيار الوسائل التي تتيح له إطالة درجه حتى يصبح مماثلاً لذلك الذي يمتد من أسفل رقعة (الحية ودرج) حتى يبلغ موقعاً قريباً من الفوز بالجائزة الكبرى. قد يتناسى هذا الشخص أنّ هناك أفعى ضخمة تنتظره لتعيده إلى حيث كان. التسلّق السريع يقترن في العادة بإمكانية الهبوط السريع لأنّ من إرتضى لك بالتسلق السريع هو ذاته الذي قد يطيح بك. لا قوانين حاكمة في الحاليْن سوى المزاج الشخصي وحسابات الربح والخسارة على مقياس فردي مفرط في الانانية والافتقاد إلى المروءة. لا حساب لشعب أو حضارة أو عراق أو شرف شخصي يُسجّلُ للحاكم مثلما سجّل التاريخ لشخوص قيادية نقلت بلدانها من حال بائس إلى حال آخر يُعدُّ أنموذجاً نهضوياً وتنموياً يستحقُّ التنويه والدراسة.
ظاهرة التزلّف والتقرب من الرؤوس الكبيرة الحاكمة على كل المستويات هي ظاهرة مدمّرة في أدنى الحسابات؛ فهي تقتل روح الاجتهاد والرغبة في الارتقاء العلمي والمهني، وتجعل الحياة لعبة شطارة وتذاكٍ ومعرفة بأصول أكل الاكتاف والارداف والبطون والامخاخ والالسنة!! فضلاً عن أنها تنسف كلّ التقاليد المحترمة والمتراكمة في أخلاقيات بناء الدولة. هي راحة للحاكم الكسول من إعمال الفكر والروح في عمل جاد ومضنٍ للإرتقاء الحقيقي بواقع الحال، ولعلّ مريديه يكثرون من الهمس في أذنه: الكرسي لن يدوم لك. هذه هي لعبة الديمقراطية التي ارتضيناها؛ فاحرص على نيل حصتك (المعقولة) من هذه الهبرة المدهّنة، ولا تنسَ جماعتك!!. بمعنى آخر: نقبل لك بأطول السلالم المتاحة، ولك أن توزّع علينا السلالم الباقية. لعلّهم يضيفون في سرّهم: من كان يصدّق أن نبلغ هذه المواقع؟ فلنحصل على أكبر المنافع منها قبل أن تلتهمنا أفعى صغيرة أو كبيرة. المستقبل لا يؤتمنُ في العراق.
شاهدتُ قبل بضعة أيام تسجيلاً لأحد النواب يقول فيه أنّ (الجماعة) في جلساتهم الخاصة يحتقرون الشعب ويتكلمون عنه كلاماً قاسياً لن يقولوه بالطبع في العلن. من هذه الاحادبث السرية أنّ الشعب العراقي كثير التطلب ويلح على الوظيفة. من أين نأتي له بالوظائف؟ ينسى هؤلاء (نوّاب الصدفة الغبية) أنهم ركبوا سلالم جادت بها عليهم أحزاب أو قادة، ويريدون الاستئثار بثمارها. هم يعرفون أنّ المشاركة تقلّل مواردهم؛ لذا لا يريدونها. يقبلون بحلب ضرع العراق ولن تهتز لهم شعرة حتى لو مات نصف أهله جوعاً وفاقة.
سينتشي هؤلاء النوّاب والمتنفّذون بأوضاعهم الجديدة، وهم بسلالمهم فرحون مستبشرون متناسين أنّ ما يحسبونه أرزاقاً مقسومة لهم ليست سوى سرقات مشرعنة بفعل قوانين غير عادلة، أو سرقات هم يشرعنونها ذاتياً بمقاربات تأويلية فقهية بائسة.
السارق سارق حتى لو إمتدّ درجُ حظه إلى السماء، وليس بعيداً ذلك اليوم الذي سيواجه فيه أفعاه المنتظرة وهي تتضوّرُ جوعاً لالتهامه.
لا ميزة تجعلُ راكب سلالم الامس أفضل من راكب سلالم اليوم. ثمة أفعى تترقب وتنتظر وستلتهم السلّم وراكبه لا محالة. ما أخِذ بالعفرتة سينتزعُ بعفرتة أقسى منها وأكثر مرارة.
دعونا لا ننسى التاريخ القريب.