فخري كريم
وجد إبراهيم الحريري نفسه وهو في عمر الصبا يساري الهوى، وسرعان ما انتهى به هواه للانتماء إلى الحزب الشيوعي العراقي، بعد انتقال والده إلى موطنه العراق. كان إبراهيم قد شارك وهو في بيروت في تظاهرات وفعاليات نظمها الحزب الشيوعي اللبناني – السوري متأثراً بخاله حسن قريطم أحد القادة البارزين للحزب آنذاك. شَبّ إبراهيم الحريري مثل المئات من المثقفين في أوائل الخمسينيات مأخوذاً بانتمائه السياسي، متفتحاً على قيمها الفكرية. وكان ذلك كافياً ليكرس للقضية التي آمن بها جلّ حياته، مندفعاً في دروبها، مكيّفاً لمساراتها كل ما يرتبط بمستقبله واهتماماته الشخصية.
لم تكن حالة إبراهيم حالة فردية معزولة عن التحولات الفكرية والسياسية التي شهدتها تلك المرحلة النضالية المفعمة بالتحدي الوطني في أواسط الأربعينيات وذروتها في الخمسينيات. إذ انعكس في تلك السنوات، وبوضوح، الانحياز الجماهيري نحو اليسار والانخراط في صفوف الحزب الشيوعي والمنظمات الديمقراطية والنقابات والجمعيات التي كانت تعرف بوصفها واجهات للحزب. وكانت تلك ظاهرة اجتماعية – سياسية بارزة، تمثل في جانبٍ مهم منها انحياز فئات عليا من المثقفين المنحدرين من الطبقة البرجوازية والأسر الأرستقراطية المتنفذة في المجتمع والدولة إلى اليسار، وانضمام كثرة منهم إلى الحزب الشيوعي.
عبّر ذلك النزوع عن الوشائج التي تعمقت بين الحركة الوطنية وأحزابها، وبوجه خاص الحزب الشيوعي، وأوساط واسعة من المثقفين والمبدعين وأساتذة الجامعة والتدريسيين نساءً ورجالاً. وقد كان لهذا النزوع الثقافي والفكري، واندماجه بالنشاط الوطني التحرري، أبلغ الأثر في نمو الشعور بالمسؤولية الوطنية لدى أوسع الأوساط الشعبية بمختلف فئاتها.
والحال إننا إزاء تحول مهم لا بد من أخذه بالحسبان وهو تنامي نفوذ المثقفين ودورهم فيما تحقق من نهوضٍ وطني، وانحيازٍ مجتمعي أدى إلى تعزيز مواقع القوى الوطنية الديمقراطية وقوى اليسار.
إن إبراز هذا الدور، لا يعني بطبيعة الحال القفز على نضوج الظروف الموضوعية التي عمقتها عزلة النظام الملكي، وتراكم السخط الجماهيري العام الناجم عن سياساته الممالئة للاستعمار، وتصفية الحريات العامة، وتجريد العراقيين من أبسط حقوقهم الديمقراطية والتعبير عن إرادتهم الحرة في اختيار طريق التطور والتقدم.
تضيء فكرة اندماج دور المثقفين والظروف الموضوعية المسارات اللاحقة للحركة الوطنية العراقية وانقسامها، وما انتهى إليه الصراع السياسي بين القوى الديمقراطية والحزب الشيوعي من جهة وقوى الردة الظلامية بقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي وكل المتضررين من ثورة 14 تموز 1958وتأثيره اللاحق على مصائر البلاد ومستقبل العراقيين القاتم. هذا الصراع المرير انتهى في إحدى أخطر مراحله بالانقلاب الدموي في 8 شباط 1963 واعتراف قادة البعث بأنه نفّذ بقطارٍ أميركي.
لقد شكّل الانقلاب المذكور منعطفاً مأساوياً مدمراً، واتخذ منذ نجاحه طابع انكسارات وانتكاسات وهزائم لم تتوقف تداعياتها السلبية حتى يومنا هذا. لم تقتصر تلك التداعيات وما تمخض عنها من كوارث وتراجعات على كل صعيد على العراق فحسب، بل وشمل العالم العربي والمنطقة بأسرها. وكان من بين أكثرها تضرراً بلدان عربية محورية مثل مصر وسوريا والكفاح الوطني التحرري الفلسطيني. ويمكن القول بلا مبالغة إن تلك الصفحة السوداء قلبت موازين القوى، وأنهت حقبة دور التيارات الكبرى في الحياة السياسية والتأثير في وجهة تطور مسارات العالم العربي، ومهّدت لهزيمة 5 حزيران عام 1967، وهي المؤشر القومي الأخطر للانحدار في تاريخ الشعوب العربية. يتكشف في هذا المفصل طابع انقلاب البعث المذكور وهوية الانقلابيين في كل ما تحدّد لاحقاً من مصائر، ليس في تاريخ العراق ومستقبل تطوره، بل كلحظة فارقة في تاريخ العالم العربي والشرق الأوسط. لقد تغيّرت مصائر العراقيين والشعوب العربية، وصارت الهزيمة والارتداد عنواناً عريضاً متكرراً يُلازم حياتهم ونضالاتهم وكل محاولتهم للإفلات من كمائن هزائمهم، واستعادة المبادرة للسيطرة من جديد على مصائر بلدانهم!
إن قراءة موضوعية لوقائع التطور التاريخي في المنطقة ودولها تشير عن يقين إلى أن جريمة البعث في 8 شباط 1963 هي نقطة الارتكاز والانطلاق لأي قراءة منصفة لما آلت إليه الأوضاع السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في العراق والمنطقة، فضلاً عن الأبعاد الكارثية التي انتهت إليه قضايانا الكبرى التي تشظت وتفكّكت وتناثرت في مجرى هزائمنا وإخفاقاتنا ووصولنا إلى حد الاستسلام أمام العدوان الاسرائيلي وإلغائه لما تبقى من إرادة (صمود الأمة) دفاعاً عن شرفها القومي وأس مقدساتها فلسطين!
كان انقلاب 8 شباط 1963 أكبر انتقام سياسي من العراقيين وجمهوريتهم وثورة الرابع عشر من تموز، ساعدت في تنفيذه ومارسته الولايات المتحدة وبريطانيا لإنقاذ ماء الوجه لجهازي «السي آي أي» و «المخابرات البريطانية» اللذين أخفقا في كشف تحركات الضباط الأحرار وإفشال الثورة التي انتصرت في عقر دار مقر حلف بغداد. والمعلوم أن ثورة تموز كشفت هشاشة الحلف المستند على منظومة سياسية معزولة عن شعبها، تابعة للأجنبي، متخلية عن المصالح الوطنية العليا.
ومن المفارقات الدالة، أن العراقيين كانوا قد استمعوا قبل فترة وجيزة من انتصار ثورة تموز إلى نوري السعيد وهو يخاطبهم مطمئناً أتباعه وأسياده بالعبارة التي صارت مثلاً للغفلة والتغول: «دار السيد مأمونة!». فإذا بالدار تتحول إلى ركام أمام مدّ الجماهير العراقية، لتبدو مجرد نسيج أوهام السيد وحماته، إذ انهار حلف بغداد في عقر داره من دون أن يتمكن أسياده الأميركان والإنكليز من إنقاذه!
نفّذ البعثيون ما كان مطلوباً منهم لإطفاء بؤرة التطور الديمقراطي في العراق، وتجريده من طاقة الفعل والتأثير على المحيط العربي والإقليمي، والحيلولة دون انعتاقه وتحرره من التبعية والاستعباد السياسي والاقتصادي ومرتكزاته العسكرية. كان واضحاً منذ البداية أن هدفهم لم يكن تصفية الحزب الشيوعي العراقي وحده، مع أنه كان الهدف الرئيسي، بل الإجهاز على كل القوى والتنظيمات الوطنية والقومية بوحشية لا مثيل لها حتى في تاريخ الفاشية والنازية. وما لم ينجزوه في الأشهر المعدودة التي دامت فيها هيمنتهم على سلطة الانقلاب، كما عجز عن إنجازه شركاؤهم الذين انقلبوا عليهم في 18 تشرين بعد أشهر من انقلاب شباط، تابعت المهمة الزمرة نفسها بعد أن استعادت السلطة ثنائي البكر – صدام حسين في 17–30 تموز عام 1968 بالاشتراك المباشر هذه المرة مع عملاء السي آي أي!
في أول تجسيدٍ لهويتهم السياسية وتعبيرٍ عن برنامجهم وأهدافهم الحقيقية، أعلن الانقلابيون بيان رقم 13 صبيحة 8 شباط دعوا فيه بوضوح إلى قتل كل شيوعي أينما وجد!
كان الشيوعيون آنذاك، كما في العهد الملكي، عنواناً لكل وطني وقومي ومستقل. ولقد أباد البعثيون وحلفاؤهم منذ الساعات الأولى للانقلاب الآلاف من العراقيين من كل الميول والاتجاهات في الشوارع والمحلات وسائر أنحاء البلاد.
ولمن لا يدري من الأجيال الجديدة أن العراق بما فيه من مدارس ونوادي ومباني عامة حكومية تحولت منذ اللحظات الأولى للانقلاب إلى معتقلات للوطنيين العراقيين على اختلاف انتماءاتهم ومشاربهم وقومياتهم وأديانهم وأعمارهم، إناثاً وذكوراً، من دون استثناء الصبيان الذين لم تتجاوز أعمارهم الخمسة عشر عاماً، هذا فضلاً عن السجون ومراكز الشرطة القائمة. لقد صارت تلك المعتقلات مسالخ بشرية أو معابر وقتية للانتقال إلى المسالخ المخصصة للتعذيب حتى الموت جسدياً أو الإسقاط السياسي، وإلى ميادين الرمي بالرصاص!
لكن قصر النهاية تميّز بكونه عنواناً للموت المؤكد، للتعذيب حتى الموت، والرمز الأبرز للمسالخ البشرية ومختبرات ابتكار أساليب التعذيب والموت البطيء للمناضلين. أصبح القصر الملكي السابق المسمى بـ «قصر الزهور» شاهداً حياً على جرائم يندى لها الجبين، وظل يحمل عار الانقلابيين والوجه الحقيقي لأولئك الذين لعبوا دور الجلاد والمعذب والمتفنن في ابتكار ألوان من التعذيب والتلذذ به لإبقاء الضحايا أحياء ينزفون. كان الجلاد من الحرس القومي البعثي يحمل كل أداة جارحة من أدوات القطع والتشريح والتعليق والخنق والعصر وتكسير العظام، مجرباً هواياته في التمثيل بجسد الضحية.
في هذا المسلخ الرمز (قصر النهاية)، تدرب صدام حسين وهو في بداياته الأولى بعد اشتراكه في محاولة اغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم. وفيه أيضاً تدرب كل الذين عملوا لاحقاً في جهاز حنين والأجهزة العسكرية وفرق الاغتيالات والنشاط الأمني.
إن مناضلاً يعاني من سكرات الموت تحت التعذيب، لا يعدو الموت له سوى رحمة يأبى الجلاد البعثي تقديمه له دون ثمن. الثمن هو إنهاك الجسد، واستنزاف قواه، والفتك بتلك الأجزاء التي تنتهك قدسيته وتنتزع منه روحه، وتحوله إلى شبه إنسان، خاوٍ، شبح، مجرد جسد عار بلا روح، لا طاقة له على تحمل عبء الشهيق والزفير!
كان الجلاد بعد أن ينتهي من عبثه المطلق بجسد الضحية ينتقل إلى العبث بروحه، خشية انبعاثه من جديد، ثم لا يكتفي بذلك إذ يستهدف ضميره، حيث مكامن الافتتان بالقيم التي تظل منزوية في عقله الباطن. إنه يراوده ويستدرجه ليتنازل، على كراهة منه، عن آخر قلاع الروح فيمعن في الإجهاز عليه، محققاً السقوط السياسي لضحيته.
بهذا السقوط يصبح المناضل جسداً بلا روح، شبه إنسان تعذبه الذاكرة، ويمتحنه النسيان فتظل تلاحقه بلا نهاية…
هذا ما كان يشكّل الهدف النهائي لجلادي الحرس القومي: إغراق المجتمع العراقي بأشلاء بشرية مكشوفة بآثار ترميمها، تتعثر وهي تمشي، تتلعثم وهي تتكلم، تزوغ ببصرها وهي تحاول أن تميّز في الأشكال، لفرط العتمة التي تتحرك فيها، أو هي تستدعيها لتستر به حياءها. إنها لم تعد تحمل تحت ضلوعها سوى هشاشة عظام ونتوءات للإحساس بالعار من الانهزام وفقدان الإرادة في لحظة الاختيار.
خلال بضعة أشهر من الخراب والدنس الذي خلفه البعث وحرسه القومي بالعراق، قبل سقوطه على يد شركائه الذين استبد بهم هول الاستباحات، والرعب من القصاص المنتظر، عاش العراقيون مناحاتٍ لم تنقطع، وآثار جراح لا تندمل في أرواح من صارت الهزيمة تمتص ماء الحياة من مساماتهم وتؤرق لحظات استذكارهم ووعيهم بما صاروا إليه من انكسار.
المصيبة الكبرى أن كل واحد منهم صار يمشي ويتحرك مع انكساره، يشيعه من دون إرادة منه أينما حلّ، يحمل ثقل يأسه وتأنيب ضميره محاولاً من دون إرادة منه الانسحاب والانزواء في قاع النسيان في متاهة لاوعيه. لكن ما إن يحاول استدراك البعض من نسقه الإنساني تتلبسه، بكل أهوالها، هلوسات ساعات التعذيب والمسالخ البشرية للحرس القومي.
هذه اللوحة الجنائزية للمأتم البشري الذي خلّفه البعث وحرسه، يستعصي على التخيل لمن لم يعش زمن الفجيعة تلك. إن تَمثُّل وتمثيل تلك اللوحة قد يبدو للبعض مبالغة أو غلواً أو محاولة للإسقاط السياسي وتصفية حساب مع حزب البعث وتاريخه. لكن المشهد ما زال حياً بيننا، وبالإمكان تلمس عواقبه في كل ركن من بلادنا، وفي أطراف العالم العربي، حيث الانهيار هو المشهد المهيمن. هذا المشهد يتجسد في انقلاب القيم والمبادئ، وكل ما تعنيه من دلالات وأخلاقيات تحوّل إلى الضد. أقوى دليل على هذا هو واقع العراق بعد ستة عقود من مجزرة وفجيعة انقلاب 8 شباط 1963، فها هو مترعٌ بالعفن السياسي والفساد والنهب والأوبئة والخراب والانحطاط والتردي المتفشي في كل مكان، وكأننا في مشهد متخيلٍ من مرابض ما قبل الجاهلية. وبالتوازي لهذا الواقع، نجد كيف انتهت بالانحدار إلى قاع لا قرار له أغلب الدول العربية التي كانت مراكز الإشعاع الفكري والإبداعي والثراء الروحي والقيمي ومصادر الثروة البشرية والنماء.
هذا المشهد المُروّع، حيث التبعية والخيانة وبيع الأوطان وفساد الضمير والجهل والأمية والرشوة والتزوير، بدأ من تلك اللحظة المشؤومة في 8 شباط 1963، ومع إذاعة بيان البعث رقم 13 وهو يأمر جلاوزة الحرس القومي:
«اقتلوا الشيوعيين من دون تردد أينما تعثرتم بهم…».
فتحولت الشوارع والميادين العامة في أرجاء بغداد والمدن الممتدة في الجسد العراقي إلى مدافن مكشوفة لآلاف الوطنيات والوطنيين العراقيين.
لم تكتمل المهمة، فوثب صدام بمعيّة البكر إلى السلطة في 17–30 تموز 1968 ليتم ما لم يكتمل في (شباط 63)، وقد تسلح بالتجربة، وبالمزيد من أدوات وفنون الخديعة السياسية وأساليب المراوغة والمراودة والبراعة في استخدام سياسة «العصا والجزرة».
آلاف المثقفين من بين مئات آلاف المعتقلين نجوا من الموت الجسدي، من التصفية تحت التعذيب في قصر النهاية وأقبية التمثيل الهمجي بالبشر. لقد خرجوا من القصر وتلك الأقبية من دون أن يستثنيهم الأوباش من التعذيب، والتشويه الجسدي، ومن أهوال تستعصي على التشبيه. كان البعض من الضحايا قد انتمى للحزب الشيوعي، لكنه لم يتعمد بالإيمان بعد. كان الانتماء خياراً شمل مئات الآلاف من كل الفئات، مفتوحاً على التجربة والخطأ، ينتظر أن تتحول الشعارات التي ملأت فضاء العراق بهتاف «إسأل الشعب ماذا يريد… وطن حر وشعب سعيد» إلى إنجاز بشري، يستنبت الأرض حصاداً يتلمسه الفلاح، مثلما يرتزق به العامل والمثقف والكادح من منجزات تجعل الحياة مكاناً أفضل للعيش.
كان الانتماء بالنسبة للبعض، رخواً، وللبعض هشاً، تتغذى عليه الشكوك، وانتظار الذي كان وعداً آتياً ولم يأت… هؤلاء استعادوا حريتهم بعد عذابات ستظل ترافقهم وتنبش في ذاكرتهم. الواحد منهم يعيش بين يائسٍ ومشككٍ، ومشمول بإحساس من تخلص من مأزق، فانضم إلى مسيرة الحياة، مهموماً بصروفها، حذراً من أي عثرةٍ تعود به إلى كوابيس ما وقع فيه من كبوة انتماء لم يكن على قدر تحمل أعبائه.
بين هؤلاء من اعترف عن ضعف في إيمانه، ومنهم من وشى برفاقه، وبينهم من وجد نفسه مضطراً لتأييد اعترافٍ جاء من الأعلى فوجد فيه خلاصاً، ولا مثلبة. منهم من أيد اعترافاً جاء من الأعلى فوجد فيه فرصة لإخفاء أسرار وحماية رفاقٍ والنجاة بنفسه. ومن المعترفين أنفسهم من أخفى أسراراً ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. ومن هؤلاء من رأى في المواجهة انسلاخاً من حالة وجد نفسه فيها بمحض الصدفة أو لأمر ما لا علاقة له بالإيمان، أو أن انتماءه جرى بقناعة لم يكتمل باختبار الإيمان بكل ما يعنيه من التزام، وما يتطلبه من ضوابط، وما يواجهه من تحديات وتضحيات. هؤلاء وجدوا أنفسهم بين عائد لهموم تفرضها صروف الحياة ومتطلباتها، فانشغل بها عن السياسة وتبعاتها، وبين جاحدٍ للماضي، أو آخر تأثر بما أضفى عليه انتماؤه السابق من حنينٍ مخبوءٍ لقيم ومبادئ تزدهي بالحياة.
ولّدت التجارب القاسية لكل هؤلاء الضحايا، ولاسيما بين المثقفين، نتائج سلبية تمثلت في انكماش بيّن في الاهتمام بالشأن العام وتجاذبات الحياة السياسية والحزبية. وكان هذا التأثير أفدح على الحزب الشيوعي بحكم دوره التاريخي ومكانته في الحركة الوطنية والجماهيرية، حيث طال هذا التأثير السلبي حياته الفكرية ونشاطه التنظيمي وتوجهاته السياسية، وطاقته في الكسب والتعبئة الجماهيرية.
ولم يكن هذا التأثير بمعزل عن الأخطاء التي ارتكبتها قيادة الحزب المثخنة بالجراح، في التعامل مع نتائج ما تمخضت عنه التجربة في مواجهة انقلاب شباط 1963، على أكثر من صعيد، ومن بينها كيفية التعامل مع ضحايا همجية الحرس القومي. كما تمثلت بالتغيرات السياسية التي اتخذت صيغاً براغماتية مخادعة، شكّلت كمائن لتوريط الحزب في سياسات وتوجهات ينقصها الحذر والحيطة، وتتطلب اليقظة الفكرية والانتباه السياسي. وكان أشدها إضراراً بالحزب ومصائر البلاد، ما ارتبط بما عرف بـ «خط آب» التحفوي، وما ارتبط به من نهج ممالئ للاتحاد الاشتراكي حد النزوع نحو الاندماج معه، ثم السياسة التنظيمية التي جرى ابتكارها بدعوى إعادة تنظيم الحزب، بالاعتماد على بقايا العناصر الحزبية التي تعرضت للانكسار من دون استثناء من أصابها عطب الانهزام والاستسلام بالاعتراف المخل، ما أدى، ونحن نقترب من الوثوب التالي للبعث إلى السلطة في انقلاب 17–30 تموز 1968، إلى توريط التنظيمات القيادية حتى مستوى المنطقيات بضم عناصر في عضويتها من بين أولئك المسلوبة إرادتهم في التعذيب.
إن من بين الأضرار الفكرية والسياسية لهذا النهج، إضعاف اليقظة والجهادية الفكرية والسياسية إزاء مناورات البعث وأساليبه في التصدي بمختلف الوسائل لكشف تنظيمات الحزب وتصفيتها بالاندساس فيها ونخرها من الداخل، وهو ما اعتبره باقر إبراهيم في اجتماع اللجنة المركزية عام 1978 الذي قاده في غياب عزيز محمد وزكي خيري: «استضافة لرفاق من حزب شقيق وليس اندساساً، وهو يساعد قيادة الحزب الحليف على التأكد من أن الشيوعيين لا يضمرون ما يسيء للثورة وقيادتها»!
في قصر النهاية، كان كل شيء منظماً بترتيبٍ يخدم أغراض الجلادين، ويشيع مناخاً محتالاً يفتح باب الرجاء لمن يريد أن يطل على الحياة، بعيداً عن ويلات الجحيم. فكانت للناجين قاعة خاصة بهم، يخيم عليها صمت المقهورين، جروحهم ما تزال متقيحة ولم تندمل بعد، الأشلاء البشرية التي هتكها المعذبون تعاود الاستسلام لمباضع الترميم، ومظاهر الانكسار على البعض يمكن تمييزها بين من نالت منه الهزيمة الجسدية، ومن ظل ينبعث التحدي والأمل من إيمانه العميق بعد مكابدات انتمائه.
في هذه القاعة حيث الانكسار والانزواء احتل إبراهيم الحريري ركناً قصياً، يهمس كلما أمكن ذلك في أذن هذا الجريح المنكسر أو ذاك، وتتيقظ حواس تحديه في أحيان أخرى حين يستقدم الجلادون إلى هذه القاعة بطلاً استعصى عليهم النيل من صموده، لعلّ منهاراً يتشبث بخلاصه ينجح في كسر عزيمته.
أذكر وأنا أستعيد مشهد الرفيق… وقد تحول إلى كتلة من الأشلاء والجروح، ينزف الدم والقيح، يرى ظلال المحيطين به بعد أن فقعوا إحدى عينيه وأتلفوا الثانية، وهو يتوسل لمن نهض في القاعة ليكسر إرادته مخاطباً إياه بلغة تعاطف: «اتركني أرجوك، أنا اخترت مصيري دفاعاً عن حزبي وقضيتي ومستعد للموت دفاعاً عما اخترت، محافظاً على قيمي الإنسانية والأخلاقية دون أن أهاب عبث الجلادين، فأنا لم أحاول الضغط عليكم لتحمل ما لا طاقة لكم بتحمله، وأفرض خياري عليكم. اتركوني أموت بسلام الضمير أرجوكم!».
من هنا بدأت مأساة إبراهيم الحريري، وكوكبة من المثقفين والمناضلين ممن عثروا في ركن قصي من هشاشة أجسادهم التي نال منها عبث التعذيب، وجدانهم الذي طوى إيمانهم وظل عصيّاً على الاستسلام…
إبراهيم الحريري، وسعدي يوسف، وعلي الشوك، ورموز باسقة من مثقفي ومبدعي العراق، وجدوا في الصمت خياراً. لكنه لم يكن صمت المهزوم، المستسلم، بل صمت البحر… وهم يتابعون مسيرة حياتهم التالية، متشبثين بإيمان ظل ينبض في أعماق ضمائرهم يستثيره الحنين والحلم المراود. العشرات منهم تجلدوا أمام قهر لحظة الضعف الإنساني، الذي ليس وجهاً لهزيمة الإيمان، بل لانكسار الجسد حين تفرمه مكابس الفولاذ أحد مبتكرات تعذيب البعث عام 1963. كانت حياة المنكسرين جسدياً، المبدعون منهم بوجه خاص، شريطاً متواصلاً من المناجاة مع الذات المعذبة التي يهزها الحنين إلى منبت الإيمان وذروة الحس بالتصافي، طلباً للغفران، وإن تعذر فالنسيان. أحد المنكسرين بلغ به الوجد وهو ما يزال في قاعة القصر، فصاح بالجلادين بما يُشبه التحدي: أنا شيوعي وعندي ما تعجز آلاتكم عن كسر إرادتي بإفشائه. فلم يفلح وجده في لحظة ذهوله التصوفي من مقاومة جحيم مفرمة تطويع الحديد عن كسر إرادته فاقتيد ليسجل اعترافاً مفبركاً يفوح منه التعريض بنفسه ورفاقه.
كانت صبيحة 18 تشرين 1963 عرضاً فريداً لهزيمة البعث وانقلابه الفاشي. وعنواناً يصلح لإظهار الطغيان حين لا يجد في لحظة الهزيمة، مفراً من الهروب في الشوارع والساحات وهو يرمي ما يؤشر لهويته كجلاد بات مطلوباً. في تلك الصبيحة كنت ترى قطعان الحرس القومي التي لم تترك ركناً آمناً في العراق المستباح، وهم يتراكضون وعلامات الهلع المنطوي على الخوف الجبان بادية على وجوههم وهم ينزعون دون أن يتوقفوا ملابس الحرس القومي، ويرمون عنهم سلاح الجريمة. وكان المواطنون الواقفون أمام بيوتهم يسخرون منهم ويلاحقونهم باللعنات والشتائم والسخرية.
ووجد الانقلابيون الجدد وعلى رأسهم المهرج عبد السلام عارف في السخط الشعبي العام ضد البعث، فرصة لتثبيت أركان حكمهم، والسعي لتبرئة أنفسهم من جرائم انقلابيي 8 شباط 1963. وهو ما دفعهم لإعلان قرارات تخديرية مخاتلة للتخفيف من الاحتقان السياسي، ومظاهر الفجيعة والفقدان التي كانت تهيمن على حياة أسر آلاف الضحايا من الشهداء والمغيبين في السجون والمعتقلات.
وبدلاً من فضح تلك المناورة، تم إمرار خط آب 1964 في اجتماع تصدره بهاء الدين نوري وعامر عبد الله وزكي خيري، الذين كانت اللجنة المركزية بقيادة الشهيد سلام عادل قد أقصتهم من عضويتها بشبهة التكتل. وشاركت في صياغة القرار عناصر متعاطفة مع التيار الذي ارتبطت به أسماؤهم.
ولعب بعض هؤلاء أدواراً خطيرة في حياة الحزب، في المراحل التالية، عرّضت الحزب الى أخطاء جسيمة، وحمّلته أعباء أثرت على مسيرته وأنهكته بتبعات ما فرضته من توجهات وسياسات جوبهت باعتراضات واسعة من قاعدة الحزب والجماهير المتعاطفة معه.
بعد إسقاط سلطة البعث في 18 تشرين 1963، تفرغت سلطة عبد السلام عارف وشركائه لملاحقة البعثيين، والتخفيف من الملاحقات المكشوفة ضد الشيوعيين والقوى المعارضة الأخرى. لكن جو الانكسار والفجائع التي خلفتها سلطة البعث ظلت تهيمن على حياة العراقيين. وكانت انعكاساتها واضحة المعالم على المثقفين الذين تعرض الآلاف منهم إلى التصفية والاعتقال والتعذيب. وبينهم المئات ممن وجدوا أنفسهم في مواجهة متغيرات اجتماعية وسياسية جديدة تماماً. فبدأ الكثيرون منهم بحثاً في العمق عن تفسير لكل ما جرى، وما استجد، وما صار مطلوباً كشف الحجاب عنه. في مثل هذا الجو وجد العشرات منهم خلوة علنية للحوار والبحث في مقهى عُرِف بمقهى العباقرة أو المعقدين. وأسفرت النقاشات والحوارات في المقهى وأطرافه وامتداداته عن نزعات واتجاهات ومدارس تحاول اعتمادها لإعادة التوازن الذي افتقدته في ظل الأوضاع الجديدة. وبرزت أسماء لامعة لكتاب ومبدعين وفنانين كعناوين لهذا الذي صار يُعرِّف نفسه كاتجاه أو مدرسة فنية أو تحول فكري مسمّى. وغلبت على تلك التحولات الفلسفة الوجودية، والإنكارية، واللامنتمية، ومظاهر الاغتراب أو كما تبنى أهل المقهى نحتاً عربياً ملائماً لأمزجتهم «الألينة»..!
من بين هؤلاء من استعاد توازنه الفكري، مع ابتكار إبداعي مضاف أو مع مزيج من العبثية الوجودية واللاأدرية. ومنهم من راح أبعد من ذلك، أن انسحر منكفئاً، ومنزوياً يبحث عن هوية أو يكتفي بذاته وما هو عليه…
بعيداً عن المقهى والعوالم التي تتناغم فيه وحوله. كان مثقفون تعرضوا لعذاب الجسد، ظلت أرواحهم عصيّة على مباضع الجلادين. لم يتمكنوا من النيل من خباياها المستورة بضمائرهم، والهائمة في فضاء الحلم الذي لا يقبل الانكسار…
من ذاك الفضاء المفتوح على الأمل والذي ينتظر بشغفٍ آتٍ، واعدٍ، مرتجى لا يخذل…
من هناك خرج إبراهيم إلى ما بعد المجزرة ليكتشف أنه فقد كل مصدرٍ للشغف. لقد تغير كل شيء، فقد مذاقه، وتعكرت ألوانه، وبدا وهو يجول ببصره ليكتشف ما حوله كما لو أنه أصيب بعمى الألوان، وفقدان حاسة الشم، وصارت الهسهسات في أذنيه ضجيجاً يمزق السكون، وباتت حاسة التذوق عنده مرارة لم يتعودها. ومن يومها وجد سلوته في ما يحاكي التهريج، صار يتفنن في ابتكار النكات البذيئة، ويميل للسخرية، وإذا عجز عن السخرية من أحدهم سخر من نفسه. حين يختلي بنفسه، يُفرغ شعوره بالعجز واللاجدوى واللامبالاة بالبكاء المتوسل للتصالح مع ذاته المنكسرة التي تُفرغ حنينه لاستعادة رسوخ إيمانه بأن ما نذر نفسه لحمله حتى النفس الآخير آتٍ غير قابلٍ للانكسار.
مات إبراهيم وقد أترع بمتاعب الشيخوخة ونسياناتها، لكنه التقط مع لحظة سكينته الأبدية ما افتقده بانكساره: الإيمان بأن الإنسان قد يظل الطريق، أو يكبو وينحني أمام العواصف، أو حتى ينكسر لكن ما يعتمر في وجدانه من إيمان بالحياة يبقى عصياً لا يُقهر!
جميع التعليقات 4
طالب السنجري
منذ 5 شهور
من أجل أن أضيف شيئاً مفيداً وخصوصاً مايكتبه الاُستاذ فخري كريم الى مخزون مطالعاتي أرغب بالانضمام اليكم .
ياسين النصير
منذ 5 شهور
لابد من كشف الاوراق التي بقيت حبيسة الذاكرة، شكرا ابا نبيل
د . اياد الجصاني
منذ 2 شهور
لا ادري لماذا اخترت قراءة ما جاء في مقالة الأستاذ فخري كريم هذه التي ذكرتني بالكارثة التي حلت بالعراق على ايدي البعثيين في انقلابهم عام 1963 . كنت احد الناجين من المجازر عندما استطعت الهرب من العراق قبل وقوع الانقلاب. اتشرف بالانضمام الى صحيفتكم الكريمة
امجد حسين
منذ 5 أيام
رائع جدآ جدآ جدآ سوف اعممه على جميع أصدقائي ومعارف.