اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > برهان الخطيب: يرى أن الأدب كالسياسة تمد فيهما فخاخ لتغليب الخارج على الداخل

برهان الخطيب: يرى أن الأدب كالسياسة تمد فيهما فخاخ لتغليب الخارج على الداخل

نشر في: 11 يونيو, 2024: 12:16 ص

حاوره/ علاء المفرجي

  • 1 -
    ولد الروائي برهان الخطيب في محافظة بابل عام 1944 وأكمل فيها تعليمة الابتدائي والثانوي. كان والده حسن الخطيب خريج أول دورة لتعليم اللغة الإنجليزية في العراق ثلاثينات القرن العشرين، وعمل طيلة حياته مدرسا للإنجليزية وتقاعد كمدير مدرسة، ووالدته فاطمة كريم الهاشمي من رائدات الحركة النسوية في العراق.
    نشر الخطيب أول قصصه بمجلة الأحداث اللبنانية عام 1959 كما عمل في الستينات في الصحافة العراقية واللبنانية ونشر بها قصصًا قصيرة وترجم عن الإنجليزية، ثم انتقل إلى بغداد مع أسرته، وتخرج في كلية الهندسة العراقية بعد دورة تدريبية في مصر، حيث درس في دورة ضباط الاحتياط من سبتمبر 1967 إلى آذار 1968. صدر أول كتاب له عام 1967، وهو مجموعة قصص بعنوان "خطوات إلى الأفق البعيد"، عن دار آل البيت في كربلاء واستقبلته الصحافة العراقية جيدًا. وفي العام التالي صدر له "ضباب في الظهيرة" وهي رواية عن دار الغري في النجف، وفي نفس العام نشرت قصته "الشرف" في مجلة الكلمة، والتي بسببها أُحيل برهان إلى المحاكمة بسبب "تعرض القصة للقيم والوضع السياسي"، ثم أغلقت الدعوى بتدخل الوزير شاذل طاقة.
    عمل الخطيب مهندسًا في وزارة الإصلاح الزراعي من عام 1968 وحتى عام 1969. وأوفد إلى موسكو عام 1969 وكانت له عمة تدرس في روسيا مع زوجها، وساعدته عمته على البقاء في موسكو، فتخلى عن الهندسة هناك، والتحق بالمعهد الأدبي للكتاب، ونال الماجستير بتقدير امتياز سنة 1975 ثم عمل فترة للحصول على إقامة، مترجمًا للأدب حتى عام 1986، وكانت حصيلة إنتاجه في تلك الفترة ثلاثة عشر كتابًا مترجمًا، إلا أن اهتمامه الرئيسي كان الرواية والقصة والمقالة كتأليف وبحث، وكتب أكثر من دراسة وكتاب عن القصة العربية العراقية. وراسل الخطيب مجلة الأقلام الأدبية وألف باء العراقية والآداب اللبنانية وغيرها. كما عمل الخطيب مراسلاً لمجلة وزارة الإعلام العراقية الأقلام من 1975 إلى 1980، وكتب أطروحة دكتوراة في القصة العراقية بمعهد الاستشراق الروسي وناقشها.
    يرى الناقد د. نجم كاظم أنه يمكن اعتبار برهان الخطيب كاتبًا ستينياً (أي بدأ مسيرته الأدبية في ستينيات القرن العشرين))، بسبب تجربته الروائية الأولى "ضباب في الظهيرة" التي صدرت في أواخر الستينيات، وما وصفه بـ"بقاء أنفاس هذا التيار تتردد بهذا القدر أو ذاك في أعماله التالية"، بالإضافة إلى انتماء روايته "شقة في شارع أبي نواس" (التي يراها كاظم أهم أعماله) بدرجة ما إلى الستينيات. وصف د. كاظم "ضباب في الظهيرة" بالمحاولة التجريبية المتواضعة فنّاً وإنجازاً، إلا أنه يرى أن "شقة في شارع أبي نواس" الصادرة بعد 5 سنوات منها تعد "تجربة جديدة أقل ما يمكن أن يقال فيها إنها جميلة"، ورأى فيها "تميزاً فنياً واضحاً مقارنة بتلك المحاولة الأولى"، كما عززتها تجربته الثالثة عام 1975، "الجسور الزجاجية".
    في سنة 1972، صدرت روايته "شقة في شارع أبي نواس" عن دار العودة في بيروت، ومُنعت من النشر في العراق وسوريا. تبعتها روايته "الجسور الزجاجية" عن دار عويدات في بيروت أيضًا عام 1975، ومنعت في العراق مرة أخرى، وتكرر ذلك في رواياته اللاحقة.
    في 1986، استقال الخطيب من عمله في دار نشر التقدم بروسيا بعد تعرضه لمضايقات هناك وسجنه دون محاكمة، وغادرها عن طريق سوريا إلى السويد للإقامة، ومنح حق اللجوء السياسي، ثم أسس دار أوراسيا للنشر، ثم حلها بعد عدة سنوات متفرغًا للعمل الأدبي. وواصل الكتابة في الصحف الصادرة في لندن وبغداد في الأدب العربي والشأن العراقي والتأليف الروائي.
    صوَّر الخطيب حياته في موسكو في رواية "سقوط أسبرطة أو حب في موسكو"، وشملت شخصيات الرواية "الألة السوفيتية البيروقراطية" وتوقع الخطيب سقوط المعسكر الاشتراكي وسيطرة القطب الواحد، كما صوّر في روايته "غراميات بائع متجول" قصة حب فتى عربي وفتاة روسية، وتتطور الأحداث بإيقاع غني بتفاصيل الحياة اليومية الاجتماعية والسياسية، وانتهت الرواية بخاتمة غير متوقعة.
    وُصف أسلوبه الأدبي بالمعتمد على التشويق الفني و"عرض التجربة الحياتية للإنسان العربي على خلفية غنية بالتفاصيل يصور من خلالها حالات إنسانية عامة"، وقد مزج الخطيب في أعماله، بين هموم الذات المتطلعة الشابة الممتلئة بالحس النقدي وبين الهموم الاجتماعية والسياسية الممتلئة بها شوارع الحياة وفروعها المحلية.
    كتب عنه نقاد عديدون منهم الناقدة العراقية فاطمة المحسن والتي ترى أنه كان واحدا من "القلة التي لم تقع في الفخ الآيديولوجي، ولم ينظر إلى الرواية باعتبارها معبرة عن هدف اجتماعي أو سياسي". وتعتبر المحسن أن برهان الخطيب، من أبرز الكتاب العراقيين في الخارج الذين أعطوا تصوير الأحداث التاريخية اهتمامًا واضحًا في أعمالهم، وتلاحظ أن الحدث التاريخي في أغلب رواياته، هو مركز تدور حوله حبكة الرواية، وتُرسَم ملامح الشخصيات والوقائع من خلاله. ووصفت مارينا ستاغ روايته الأخيرة "الجنائن المغلقة" بأنها "رواية عربية من طراز أصيل رفيع". وأشادت شاشتين أكسل بروايتيه "الجسور الزجاجية" و"بابل الفيحاء". وفي تحليله لرواياته، يرى الناقد عدنان حسين أحمد أن برهان الخطيب قد "غاص عميقًا في مسألة الوجود الإنساني ورصد قضايا كبيرة كالحرب الباردة والتجسس الصناعي كما تنبأ بأفول المعسكر الاشتراكي وولادة القطب الواحد الذي يتحكم بمصير البشرية".
    ماذا كان أثر الموجة الستينية في الادب – وانت أحد رجالاتها- على نتاجك الإبداعي بمعنى هل تضوع ابداعك من عطر هذه الموجة؟
  • تلك الموجة ارتفعت منا نحن العراقيين بأوقات متقاربة متباعدة خلال الستينات مثلما علينا من كل العالم تقريبا. لارتفاعها مبكرا في العراق أسباب خاصة، اضطرابات ما قبل وما بعد انقلاب 1963 الدموي. بعد صخبها عندنا يتلاطم دفقها مسموعا في مصر وفرنسا وروسيا.. يراودنا.. نحن أدباء العراق الشباب إننا روادها. في مصر أتدرب هندسة عام 1965 وأتابع ما ينشر فيها لا أجد اهتماما بها، في فرنسا أججتها تمردات الطلبة عام 1968 هناك، في روسيا مبعوثا إليها مهندسا حزيران 1969 بدأت الموجة تتحرك، في بيت طلاب معهد غوركي للآداب الرائع ذائع الصيت، حيث قبلوني دارسا فيه اعتمادا على كتابين صادرين لي هما، (خطوات إلى الأفق البعيد)، و(ضباب في الظهيرة)، وكانت الأحاديث حينها، عن ضرورة تجديد الأدب والواقع، تجري على استحياء.. كان لهم ما يكفي من الحريات.. لا ما يكفي من المزة والجعة..
    قبل كل ذلك كان أمام الأدباء الشباب في العراق، عبد الرحمن الربيعي، محمد خضير، وأنا، مدى طويل عريض لحركة التجديد، الإبداع، يمهده لنا كتاب الخمسينات، انشغلنا بشتله بأغراس جمعناها آنذاك من جنائن دجلة والفرات، بابل، كربلاء، أراضي النجف والموصل.. أول كتاب طبع لي في كربلاء 1967، الثاني في النجف 1968.. أكملت (شقة في شارع ابي نؤاس) في 1969 أثناء خدمتي في دورة ضباط الاحتياط محدثا زملائي عن تشابك أحداثها أثناء الاصطفاف، مصلحة السينما والمسرح طلبت برسالة حينه قصة لي، قدمتها إليهم، همست لي السكرتيرة بعد الاطلاع عليها: جيدة صالحة للسينما لكن ليس حاليا، الآن خذ مخطوطتك هذه وغادر العراق معها قبل سلخ جلدك. بدأ مشروع هجرتي بعد التخرج من كلية الهندسة. ليلة السفر في إيفاد إلى الخارج مهندسا أخبرت صديقي عبد الرحمن الربيعي والفرد سمعان أثناء توديعي: عودتي مقفلة، لا يمكنني ترك الرواية، الباقي لي ان أستقيل في سفارتنا هناك من وظيفتي.. أبدأ حياة صعبة.. فعلتها.. لا يوم في غربتي الطويلة يمر من غير عمل.. كتابة.. الشاعر بلند الحيدري ساعد في نشر (شقة في شارع أبي نواس) في بيروت.. التقط لنا صورة هناك. قرأها المخرج قاسم حول في سفره من بيروت إلى موسكو قال: جاهزة للمسرحة.. للشاشة. أيضا قرأها الطاهر وطار خلال يوم قال في حضور سعدي يوسف: الرقيب الذي منعها في العراق وغيره غبي.. بطلها كردي، شيوعي.. لكنها رواية بعثية قومية نقدية. في التفاتته هذه تتجسد ميزة خفية للرواية الحريصة على تصوير الواقع بصدق ودقة حدا تتغير عنده صورة الواقع المعتادة حسب زاوية النظر، طرح الواقع مع افتراضاته تحت السطح في آن، لإيصال القارئ إلى فكرة ضرورة الصدق والتغيير، لكن كيف هو التغيير؟ هنا الطامة غير التامة، هنا صراع الداخل والخارج، المحافظ والمتحرر في الداخل.. بدء الفتنة.. بدء اتضاح صورة افتراضية قريبة إلى حقيقة واقع قائم على أكاذيب وأوهام من غرب وشرق، منها ما يسمي نضال تحرير وطن يتضمن هجرة تتبدى حملة تفريغ بلد بل بلدان من مثقفيه.. لإعادة هيكلته لصالح غيره..
    نعم، لا يخلو إبداع الستينات وما بعدها عندنا من (ضوع) مفروض من الخارج أيضا، ينقل نصوص الشباب إلى ميدان سياسة، صراع طوائف..أحزاب.. اذكر كيت كذا في عملك لنشره سريعا.. شخصيا تلقيت هكذا (نصائح) وقتها وعالجتها بالتي هي أحسن.. الأدب كالسياسة تمد فيهما فخاخ، لتغليب الخارج على الداخل، تنتبه تستبعدها، تصعد الهاجس المدرك مرتين، الوطني أو غيره على غيره ضمن إدراك عليك اتخاذ موقف في صراع محتدم حولك في كل العالم.. بين أممية تتجاهل الخصوصية وأخرى تدافع عنها..
    برأيك ما الذي تبقى من الستينيات كظاهرة أدبية وفنية كبيرة في منجزها ولها تأثيرها الكبير على الأجيال اللاحقة.؟
  • بعد الستينات صارت ساحة الأدب أرحب. سابقا كانت الواقعية بمختلف أشكالها مسيطرة على الخيال الأدبي تحركه في اتجاه قلب الواقع على رؤوس الناس أو خضه.. هزهزته.. اغتيال الاتحاد السوفيتي اثبت ان ارتقاء النفس البشرية وواقعها يعول عليه اليوم بالتعليم العام موازاة التعليم الذاتي والتطهر الروحي، أجدى من أرجحة المجتمعات نحو يسار ويمين كما في لعبة على مدى قرون هدفها الظاهر تحرير، عدالة، تقدم، باطنها هيمنة، تعزيز مكاسب مادية لنخب ترى مصلحتها مقدسة على طريق قويم حتى لو مع إبادة شعوب.. صار الكاتب يتجه عموما نحو نحت النفس البشرية لا الواقع..
    حققت روايتك شقة في شارع ابي نؤاس حيث صدورها عام 1972 حضورا لافتا لدى القراء.. وهي الفترة التي ظهرت فيها أعمال قصصية وروائية مهمة مثل المملكة السوداء لمحمد خضير، ما الذي تقولة عن هذه الرواية وعن زمن صدورها؟
  • الرواية هذه موجودة في مكتبة الكونغرس الأمريكي وغيرها منذ نصف قرن يعني تحقق فعلا حضورا لافتا.. إلى اليوم يطلبها مهتمون مني.. ليس فقط من قراء الرافدين. عموما الرواية عندي سواء الصادرة لي قبل عقود أو اليوم تتشكل تحت قلمي، زوايا عقلي، وفق معادلة من كلية الهندسة س + ص = ع.. أي حدث فيه غوامض (س) يضاف إليه انعكاسه في النفس أو عند أخر (ص) صداه.. تسير الرواية تصوغ (ع).. أترك القارئ يساهم في تشكيل الحصيلة.
    بكلمة أخرى لب الرواية حدث يتفاعل بين داخل وخارج، مع أخر، يطل واقع جديد نتيجة تفاعل.. حقيقته مغايرة للمألوف.. تطبيقيا لنقل يذهب فلان مثلا لزيارة حفيده وابنته، تزل قدمه في الطريق يسقط، تتوقف سيارة وأخرى يعرض أصحابها أخذه إلى مستشفى.. ذلك س، يشكرهم فلان يواصل دربه يعرج، على مقربة من بيت ابنته يخابرها عسى يأتي زوجها بسيارته يأخذه إليهم، تخبره ابنته زوجها يرتاح في الحديقة لا يمكنه خدمته.. خذ تاكسي.. يا ابنتي أي تاكسي المسافة إليكم غير طويلة.. الأجرة عالية.. ابنته: لا أدري.. لا يمكنه. ذلك ص رمز تفكك أو تفكيك عائلة يحصل منذ الأمس. الحاصل ع.. يتساءل فلان يعود إلى مهجومه بيته حيث الوحدة أو يواصل مشقة المشي لرؤية حفيده.. تفكيك عائلته واقع.. لا هراء.. يجري حول كيك عيد ميلاد.. تفكيك برأيه لا يعالجه غير عقد مؤتمر دولي بين أطراف متحاربة في أوكرانيا وفلسطين.. الرد أو الخاتمة تترك للقارئ.. هكذا يتشكل الموضوع برأيي في صور ثلاثية الأبعاد، طبعا يتنفس الموضوع هواء مكانه زمانه، شقة في شارع أبي نؤاس نمت على تفاصيل مرحلة حاسمة من تأريخ العراق، من تأريخي الشخصي والعائلي، زد.. دقة استثمار تلك التفاصيل فنيا.
    لو نرتفع أعلى لتقديم صورة أوسع عن عالمنا اليوم، عبر الفاشينيستا المقتولة مثلا، يتساءل أحدهم في مقهى: من صنعها على تلك الخلقة ولماذا؟ ذلك س. يرد ساخر قربه من خانة ص: فعلها مستفيد من تشغيلها في وسط نفعي يتسع.. يقول آخر من خانة ع: الذي فاشنستها هو الذي دفع إلى قتلها.. لصرف الأنظار عن تحويل العراق من طريق الحرير إلى طريق التنمية.. وهكذا.. هذا الحال، الانتقال من مشكلة فردية عائلية تحيطها ظروف تاريخية معينة إلى حدود أوسع واجهته بعد نصف قرن على صدور (شقة في شارع أبي نواس) قلت لنفسي ما ذنب قارئها اليوم يبقى يدور يراوح في تلك الدائرة القديمة وأحداث جسام تتجدد حوله، تتقلب مطارق التاريخ، تضربه تضرب أبطالا غير أبطال على اليافوخ، لذلك قمت بإعادة كتابتها من وجهة نظر اليوم، أدخلت عليها الكثير من الجديد ونشرت بعنوان (ليالي الأنس في شارع أبي نواس) رواية جديدة تتضمن ما يحدث للعراق مؤخرا، أيضا قمت بتحديث كل رواياتي السابقة، تنتظر عند دار الشؤون الثقافية النور بعد تبنيهم إعادة نشرها جميعا، لكن الدار مع الأسف لا تزال بطيئة في تنفيذ وعدها.. ساهية عن أن إهمال هذا الجزء من ذاكرة العراق يصيبه بضرر.
    استغرقت رواية (ليلة بغدادية) أكثر من ثلاثين عاما من (1963-1993) لانجازها، وهي الرواية التي تتناول واحدة من اكثر فترات تاريخ العراق السياسي بداية الستينيات حدة. لماذا تأخرت في إنجازها، هل هذا التأخر كان بسبب طبيعة موضوعها، أم لأسباب أخرى؟
  • من غير مبالغة، أي موضوع أراه أكبر من شخصي عائلي محلي وطني إقليمي إلى عالمي، خاصة حدث (ليلة بغدادية) أكثر من خمسة آلاف قتيل حسب مجلة أمريكية حصيلة الانقلاب المبكرة، ذلك لا يعني البعث وحده أخطأ والباقي على صواب، كل الأحزاب أخطأت، ربما إلا الوطني الديمقراطي المنحل مبكرا، طالما شاركت في تركيبة مصدرة من الخارج لإدامة صراع داخلي ذروته الانقلاب وما بعده يقتحم حياة العراقيين في بيوتهم شوارعهم مهنهم، مطارقه تنزل حتى على رأسي قبل وبعد الانقلاب أوائل 1963، معلوم بدأ إضرابا في كليتي الهندسة، الزعيم قاسم أحببته رغم عدم وضوحه قلت له ذلك وجها لوجه قبل الانقلاب في لقاء صدفة معه بمفردنا قرب مكان محاولة اغتياله لاحقا، ظهرا كنت مع ابنة عمتي ذاهبين إلى سينما روكسي استمهلتها قصدت سيارة الزعيم القادمة، بعد مصافحتنا وكلامنا مضت السيارة، بعدها توقفت عندي سيارة الحماية وراءه، ملاطفا ضربني على رأسي قائد الحماية مبعدا سلاحه قائلا: كدنا نقتلك ماذا أردت من الزعيم؟ أجبته: أديت واجبي كمواطن أخبرته الشارع يغلي نحتاج الوضوح والمصارحة والتفاهم بين عموم الشعب والسلطة. ضحك الرجل قبل انطلاق سيارتهم صاح: إذا كبرت شراح تخطب وتقول.. قل لي يا ابن الأبهة والأصول..
    باختصار، لانحيازي المبكر إلى بلدي العراق ككل، نتيجة تربية وطنية في البيت موازاة المدرسة، من الأب والأم والعم والعمة والخال والخالة والجدة بلقيس الحبيبة، لا نحو جزء منه فقط، ولارتقاء محبتي فوق عبد الناصر إلى قاسم الوطني، عارضت الإضراب ضده عملت على كسره تتبعني زميلة رائعة، إهداء إحدى رواياتي الأخيرة لها، عضو قيادة ثورتهم لاحقا أخرج زميلتي من الصف تركني وحيدا أمام بروفسور الرياضيات، يغادره البروفسور قبل اشتعال مشاجرة، يبدأ الإضراب فعليا، تنظيم اليسار هنا يتفرج، أحاول حتى بعد إعدام قاسم ورفاقه شحنه بالأمل دون طائل رغم ابتعادي عن السياسة قبل ذلك إلى الأدب، مع والداي، فيه ناس يمكنها تأكيد ذلك، يحذرني صديق من العودة إلى الكلية قبل هدوء الوضع، رشاشات الانقلاب تخترق لاحقا بيتي في بغداد لا ينجح دفاعي عنه أيضا يعتقل من غرفتي ليلتها عديلي إلى نقرة السلمان. تدخل الأمل عبد الناصر في أمل العراق خيبنا، طريق جهنم مليء بالنيات الحسنة فعلا. السعدي اختصرها: جاؤوا بقطار أمريكي. موضوع بهذا الكبر يحتاج، مع انشغالات الحياة اليومية وتقلباتها، مع الاستماع لتجارب آخرين عنه، لزمن طويل ليتكامل أدبيا ملحميا، لتتاح فرصة تدوينه كما يجب. الموضوع حملته معي نعم ثلاثين عاما وأنا في أقصى توتر، في صراع مع الأقدار والأفكار في بلدي وخارجه، خلالها أكتب أترجم عدة قصص وروايات عن مراحل سابقة، (نجوم الظهر) و (بابل الفيحاء) عن العهد الملكي، (الجسور الزجاجية) عن العهد الجمهوري الأول، بل و(شقة في شارع أبي نواس) تمرينا عن انقلاب 1963 ذاته مروضا مقلبا الموضوع منتظرا متنقلا في عدة محطات لحظة فراغ حاسمة كافية لتدوين الرواية كاملة. بعد عقدين تقريبا دراسة وعمل في موسكو يتم تسفيري مع بدء انهيار قلعة السلم السوفيتية إلى مجهول، يتبين في الطائرة دمشق، هنا أجد فرصة سانحة لوضع الرواية أخيرا، والدي بعث لي حينه: فقدت حصيلة عمر؟ لا تهتم أرسل إليك ما يكفيك العيش. هكذا أنزل على الورق خلال عام في دمشق ما حملته في رأسي ثلاثين عاما مع مواضيع أخرى. نعم انجاز معجزة (ليلة بغدادية) احتاج مثل انجاز باقي رواياتي ما يصلح مع ما يرافقه من صعوبات وصراعات حتى التغلب عليها بإصرار ومثابرة استثنائيين لإخراج فيلم سينمائي عنها أو كتابة قصيدة كبيرة..

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

النمسا تهزم بولندا بثلاثية في يورو 2024

حاولوا قتل شخص.. الداخلية تلقي القبض متهمين أثنين في بغداد

الاتصالات: العراق ينجح في استعادة عضويته لدى اتحاد البريد العالمي

هل يكتب ميسي سطوره الاخيرة في مسيرته الكروية؟

في العراق.. درجات الحرارة المحسوسة غدا تلامس الـ 65 درجة مئوية

ملحق منارات

الأكثر قراءة

النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت

حوار مع الروائية الفيلسوفة أيريس مردوخ : الرواية الجيدة هي هِبة للإنسانية

"الزنا".. أحدث روايات الكاتب البرازيلي الشهير باولو كويلو

هل دجلة الخير للجواهري نهر؟

كيف تموت منتحرا؟

مقالات ذات صلة

استعادات من صيف لندني
عام

استعادات من صيف لندني

لطفية الدليميليس مِنْ مدينة أوروبية مثل لندن عاصمة الامبراطورية التي غابت عنها الشمس، مدينة أحلام سكان المستعمرات، هي المدينة الأكثر ألفة وحميمية - رغم كآباتها العريقة - من بين مدن القارة؛ فلا تماثلها باريس...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram