TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > برعوشا – بيروسوس: التاريخ دول وأحداث متعاقبة تقودها العناية الإلهية

برعوشا – بيروسوس: التاريخ دول وأحداث متعاقبة تقودها العناية الإلهية

نشر في: 13 يونيو, 2024: 12:04 ص

د. حسين الهنداوي

(6)
ظلت المعلومات حول الحضارات العراقية القديمة بائسة الى حد مذهل قبل التمكن من فك رموز الكتابة المسمارية على يد هنري رولنسون في منتصف القرن التاسع عشر، والتمكن بالتالي، ولأول مرة بعد أكثر من الفي سنة، من قراءة بعض النصوص الاصلية والمهمة من الكتابات السومرية والبابلية والاشورية والكلدانية المدونة بالحروف المسمارية. فقبل ذلك كانت النصوص الدينية اليهودية والمسيحية التي تذكر شيئا عن بلاد بابل هي المصدر الرئيسي بل الوحيد في الغرب. بيد ان كل ما يقدمه هذا المصدر هو سيل من اللعنات والشتائم والتصورات الشوهاء التي تحول الى محض ركام من شرور، قرونا عديدة من تاريخ حضاري وانساني زاه بكل معنى الكلمة صنعته سلسلة من العقول والعبقريات النيرة والرائدة لمفكرين وعلماء وادباء وقادة وحتى بعض الكهنة.
ولهذا، كان ينبغي ان تغدو كتابات المؤرخ البابلي برعوشا (بيروسوس) ولا سيما كتابه "التاريخ البابلي" او (البالونيكا) بمثابة المصدر الأهم لكونها الادق والاشمل فضلا عن كونها الأكثر مصداقية بطبيعتها في عرض مضامين التاريخ البابلي واحداثه نظرا الى افتراض انها، موضوعيا، كانت تعبر بالضرورة عن روح الثقافة المعبرة عن المجتمع العراقية القديمة حسب مراحلها وتطوراتها المختلفة. بيد ان دمار او فقدان نسخ مؤلفاته الاصلية حرم المؤرخين والكتاب اللاحقين من إمكانية الاستعانة بها فيما تعرضت "الشذرات" او المقتبسات النادرة التي اخذها بعض المؤرخين منها الى التشويه والاجتزاء وحتى الانتحال جزئيا في الأقل حتى لدى اشهر الكتّاب والمؤرّخين الكلاسيكيين الذين نقلوا عنه مثل اليوناني بوليستور والمسيحي أوسيبيوس واليهودي يوسيفوس وامثالهم. وفي التصنيفات الغربية لكتابات برعوشا هناك الآن ما يعرف بـ" الشذرات المنتحلة" أي التي لا علاقة لها بهذا المؤرخ البابلي بتاتا. ومن المؤسف ان التلخيص الذي وضعه الملك الامازيغي يوبا الموريتاني (نسبة إلى الاسم القديم لشمالي إفريقيا) في جزأين مفقود هو الآخر ولم يصلنا منه الا المقتبسات المضطربة هي الاخرى التي نقلها عنه المؤرخان ايليان وتاتيان من مؤرخي القرن الثاني الميلادي، وسواهم من المؤرخين ومعظمهم من رجال اللاهوت المسيحي حيث تواترت عملية النقل والاقتباس منه في العصور اللاحقة.
هذا الاهتمام الكبير الذي اقترن باعجاب لافت بكتاب "البابلونيكا" يعكس في رأينا الشمولية في رؤية تاريخ العالم الارضي لديه، فيما تدعونا الإحاطة والمنهجية الرائعة في التنظيم، الى الاستنتاج بان ما قدمه برعوشا من معلومات في هذا الكتاب يسمح بمنحه ليس فقط لقب حامل العلم البابلي الى العالم انما اعتباره أيضا رائدا في تطوير فن كتابة التاريخ بتحويله مهمة المؤرخ من مجرد وصف أحوال الدول والبلدان وتدوين وتسجيل الاحداث واعمال الحكام كما جرت او نقلت، الى اخذها كسلسلة احداث متعاقبة ومترابطة في إطار تاريخ عالمي واحد تقوده العناية الإلهية.
ويمكن في نظرنا اجمال الخصائص التي امتاز بها منهج برعوشا في الكتابة التاريخية بما يلي:

  • اعتمد في كتاباته على النصوص المحفوظة في المعابد البابلية على ايامه. وان ذكره لهذه الحقيقة يدل على اقتناعه بأهمية المصادر الاصلية وضرورة وقوف المؤرخ عليها.
  • تأليف كتابه باللغة اليونانية دل على تعلمه اسرار هذه اللغة، واتقانه لقواعدها وأساليب المؤرخين اليونانيين، كما دل على اقتناعه بان المؤرخ يجب ان يتقن بعض اللغات الأجنبية المعاصرة وخاصة ذات التراث العلمي الزاخر والمعارف الغنية والتأثير الواسع. ومما تجدر اليه ان الحقبة التي كان يعيش فيها مؤرخنا شهدت تدوين المؤلفات القديمة باللغتين البابلية والاغريقية. ولا يشك احد في معرفته باللغة الارامية التي كانت دارجة في زمانه.
  • ادراكه ان التاريخ، كتاريخ حضارة، لا يقتصر على النواحي السياسية والعسكرية، بل على الجوانب الفكرية والاقتصادية والاجتماعية. كما عمد الى تقسيم تاريخه على ثلاث دورات زمنية وحسب القدم.
  • الاعتماد أحيانا على التفسيرات المجازية كما في الصراع بين الاله مردوخ والماء الاولى (تعامه). وما تلى ذلك من خلق السماء والارض. فقد استعمل طرق بعض الفلاسفة اليونانين، كي يجعل الفكر البابلي اكثر تقبلا ومعقولية. كما حاول التوفيق بين التأمل القصصي التعبير والعقلانية المنطقية، كي يجعل منظورات اللاهوت البابلي مقبولة مستفيدا من اطلاعه على الفكر اليوناني كما ذكرنا.
  • التركيز في الشأن التاريخي على الوقائع الموضوعية واقصاء التصورات الغريبة، فمثلا تنسب الكتابات الاغريقية بناء الجنائن المعلقة الى سمير اميس، بينما نسبها برعوشا الى نبوخذنصر، مشيرا أيضا الى ان الأخير شيدها لزوجته الميدية لجعلها تنسى الغربة باستذكار وطنها الجبلي.
    وعلى العموم، اظهرت النصوص المسمارية صحة الكثير من المعلومات التي أوردها برعوشا في كتابه المذكور. فعلى سبيل المثال جعل الطوفان كحد فاصل بين حقبتين. ثم اورد قوائم بأسماء الملوك الذين حكموا قبل الطوفان وما بعده رغم ان الارقام التي قدمها لسنوات حكم ملوك ما قبل الطوفان تذهب بعيدا جدا مما ورد عنها في النصوص المسمارية المكتشفة حديثا. الا ان الارقام التي قدمها لسنوات حكم ملوك السلالة الكلدانية متوافقة مع النصوص المسمارية تلك، وكذلك شأن قوله بان الملك البابلي عند احتلال كورش لبابل كان نبونائيد رغم ان هذا الملك هجر بابل الى تيماء في الجزيرة العربية متخليا عن الحكم لابنه دون ان يتخلى عن العرش، وهذا يتفق مع الحقائق التاريخية وهو منهج جعل عالم البابليات الفرنسي جان بوتيرو يقول ان برعوشا مؤلف جدير بالثقة لأننا نجد دائما نصوصا مكتشفة حديثا تؤكد روايته وتجعلنا نستشف ان وراءها كاتبا واثقا ورصينا.
    وعلى صعيد آخر ذي صلة، امتاز برعوشا بشعوره الوطني وتعلقه ببلاده والاشادة بحضارتها العريقة في القدم وتاريخها المجيد اذ نجده يسعى دائما الى تصحيح التصورات والمعتقدات الخاطئة او المشوهة لدى اليونانيين وغيرهم عن الحضارة البابلية وتاريخ بلاد بابل مسهبا في عرض وشرح عقائد البابليين الدينية وشرائعهم ومنجزات حضارتهم العمرانية ووقائع تاريخهم الحافل بكبار الملوك البناة والمصلحين وبالسلالات والامبراطوريات القوية وبروابط التعاون والسلام مع الدول والحضارات الأخرى.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

المفوضية: نسعى لرفع نسبة تحديث سجل الناخبين

تقرير أميركي: تركيا أوقفت إمداد العراق بالكهرباء بعد تخلف بغداد عن السداد المستحقات

البنك المركزي العراقي ينفي رفع حصة المسافرين من 3000 إلى 5000 دولار

سوريا تغازل العراق: ليس لدينا حاليا خلاف معكم

ترامب: مستعد للقاء خامنئي

ملحق معرض اربيل للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: نور زهير ياباني !!

العمود الثامن: البابا فرنسيس وعقدة ساكو

العدالة الدولية تحت المطرقة

العمود الثامن: درس بارزاني

22 عاماً بين "جمهورية الخوف" و"دولة المافيا"

العمود الثامن: حقا إنها مؤامرة!!

 علي حسين في بعض الاحيان يرسل لي بعض القراء الأعزاء رسائل يؤنبون فيها "جنابي" لأنني أثير حالة من الكآبة والسواداوية في مقالاتي، وهم يلومونني لأنني أستغل هامش الحرية وأسخر من السياسيين والمسؤولين الذين...
علي حسين

كلاكيت: القاموس.. الرواية والفيلم

 علاء المفرجي في فيلم (الاستاذ والمجنون) 2018 وهو من أفلام السيرة الذاتية، للمخرج الأميركي من أصل إيراني فيرهاد سافينيا والمعد عن كتاب بالنوان نفسه، صدر عام 1999، للبريطاني سيمون وينشستر، نتابع قصة قاموس...
علاء المفرجي

(50) عاماً على الحرب الأهلية اللبنانية حياة بين قذيفتين

زهير الجزائري (5) نفير عام! لم نسمع الصوت الأجشّ البارد الذي أمر المدافع بأن تدوّي، ولم نرَ الفارس الذي قطع السهوب لينذرنا: نفير عام! النذير استحال إلى رسائل مشفّرة تخرج من أجهزة الإرسال، تمر...
زهير الجزائري

جِماح الطّائفية.. إلى نوويّة شيعيَّة وسُنيَّة!

رشيد الخيون ما كان في الخاطر ظهور مثقفين، تجمَحَ بهم الطّائفيَّة إلى تسمِّية القنابل النَّوويَّة بالأديان والمذاهب، توصلوا إلى هذه الأفكار الجهنميَّة بعد الحديث عن نِفطٍ شِيعيٍّ وماءٍ سُنيٍّ، فعندهم الأوطان مؤامرات على الطَّوائف،...
رشيد الخيون
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram