فواز طرابلسي
1-2
سيمرّ وقت قبل ان يرقى الفكر السياسي، وليس فقط الادب والفن، الى مستوى التعبير عما شاهدنا وشهدنا عليه في غزة والضفة في الاشهر الماضية من وحشية مدرعة بالذكاء الاصطناعي تواجهها بسالة المقاومة والعبقرية الشعبية اليومية في ابتكار كافة الحيل للبقاء والتشبّث بالأرض.
امضيت فترة طويلة منذ حصار بيروت 1982 ابحث في الطرق المختلفة للتعبير عن العنف وعن مقاومة البشر له. والحصيلة مقصّرة دوما. حسبي في هذه الايام القلقة المحمومة، ان اضع عددا من نقاط الاستدلال عن حرب الإبادة الجمعية في غزة مع تركيز خاص على العلاقة بين النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي والنزاع العربي-الإسرائيلي. مع ذلك، لست أدري كيف يمكن الجمع بين فورة الدم والتفكير بدم بارد. لكنني سأحاول.
الإفلات من معسكر اعتقال
في عام ٢٠٠٦ جرت في أراضي السلطة الوطنية - الضفة الغربية وغزة - انتخابات نيابية فازت فيها حركة حماس بأكثرية ٤٢٪ من الأصوات. عبّر التصويت بوضوح عن معارضة أكثرية سكان الضفة والقطاع لاتفاق أوسلو او على الأقل لما آلت اليه في التطبيق. استقال رئيس الوزراء وعيّن رئيس السلطة الوطنية محمود عباس إسماعيل هنية أحد قادة حماس رئيسا للوزارة. رفضت إسرائيل والإدارة الاميركية ذاك التعبير الحر عن إرادة الفلسطينيين فحاولت أجهزة في السلطة وفي حركة فتح الانقلاب على حماس في غزة. فشلت المحاولة وبسطت حماس سيطرتها على غزة.
للفور أعلن الاحتلال الإسرائيلي قطاع غزة "كيانا معاديا". وبوشر بفرض حصار شامل على القطاع سمح بدخول عدد محدود من شاحنات الغذاء يوميا وقد احتسب أطباء إسرائيليون، مثل اسلافهم النازيين، مقدار السعرات الحرارية المسموح ان يتناولها الفلسطيني لكي يبقى على الرمق. هكذا تحولت غزة الى ما اسماه عالم الاجتماع الاسرائيلي باروخ كيمرلنغ "أوسع معسكر اعتقال وجد في التاريخ"
تلت ذلك عدة مواجهات وانتفاضات في ٢٠٠٨ و٢٠١٢ و٢٠٢٢، ٢٠١٤، تخللتها عمليات قصف صاروخي تقابله غارات للطيران الحربي، تم خلالاها تدشين تقليد اغتيال الافراد بالصواريخ، ترافقت مع عمليات برية للجيش الإسرائيلي داخل القطاع، وكانت تنتهي باتفاقيات وقف اطلاق نار وتبادل أسرى، الخ.
في ٣٠ اذار ٢٠١٨ ذكرى يوم الأرض، انطلقت "مسيرة العودة الكبرى" لسكان غزة للخروج من معسكر الاعتقال، وتواصلت كل يوم جمعة لعدة أشهر تجلّت فيها البطولة الجمعية للغزيين نساء ورجالا، يهجمون لاختراق حاجز المعتقل بأجسادهم ويسقطون تحت نيران القنّاصة. كان أسرى معسكر الاعتقال الإسرائيلي مستعدين للموت ولا البقاء في الاعتقال والجوع والفقر والقهر. سقط في تلك الملحمة ٢١٤ شهيدا بينهم ٤١ طفلا وأصيب أكثر من ٣٥،٦٠٠ بجروح معظمها في الساق، بينها ٨ الاف من الجروح الخطيرة جراء القنص بالذخيرة الحية.
لم يكرّر اهالي غزّة محاولة الإفلات من المعتقل بتمزيق الأجساد على الحاجز.
في ٧ تشرين ٢٠٢٣، حلّقت أفواج من "كتائب القسام" فوق السياج وبأيديهم السلاح ثم خرقوا السياج ودمّروه. وللتذكير فقط، مستوطنات وثكنات ما يسمّي بغلاف غزة مبنيّة في معظمها على قرى فلسطينية جرفت واخليت من أهلها الذي يسكن معظمهم في … قطاع غزة.
اول حرب ضد مدنيين
"طوفان الأقصى"، من أكبر عمليات التحرر الوطني الفلسطيني منذ ثورة ال٣٦، بل اكبر عملية لحركة تحرر وطني في المنطقة العربية منذ "معركة الجزائر العاصمة" التي احتل خلالها مجاهدون ومجاهدات في جبهة التحرر الوطني الجزائرية حي القصبة في العاصمة عام 1957 وهي العملية التي أعلنت الثورة الجزائرية للعالم. وهذه بعض معالم تميّز العملية التي اسميتها "طوفان الحق الأقصى": الاعداد الذي استغرق سنوات، شبكة الانفاق المدهشة، التصنيع المحلي للأسلحة والقذائف والصواريخ، التخطيط والمخيلة وعنصر المفاجأة للعدو والاهم دقة التنظيم والجودة في استخدام الأرض والسلاح والاستبسال غير المحدود. ولا بد من التشديد على دقة المطالب الثلاثة: وقف الاعتداءات على المسجد الأقصى؛ تبادل الاسرى؛ رفع الحصار عن غزة.
وهذا ما يفسّر، دون ان يبرّر طبعا، السعار الذي جوبهت به العملية، وقد كشفت تقصيرا فادحا في الاستخبارات والقوات المسلحة والقيادة السياسية التي اخذت على حين غرة.
حرب غزة هي اول حرب في المنطقة والعالم يخوضها جيش ضد مدنيين حتى يمكن القول ان الضحايا من المسلحين اقرب الى ان تكون من قبيل "الاضرار الجانبية". هي حرب الطيران، النظامي والمسيّر، والمدفعية، والصواريخ والدبابات لتدمير المنازل على أهلها (يجوز في قواعد الاشتباك للجيش الاسرائيلي قتل من ١٠ الى٣٠ مدنيًا لتصفية مقاوم واحد!) وحرق أحياء بأكملها بواسطة "زنار النار". وقد نال اهل غزة قنابل المائتي رطل والقذائف الفوسفورية والانشطارية. هي حرب يقنص فيها الافراد بصاروخ المسيّرة كما بصاروخ طائرة ف ٣٦ وترتكب فيها جرائم نموذجية كتلك التي مارستها التنظيمات الصهيونية المسلحة في تطبيق الخطة دلتا عامي ١٩٤٧-١٩٤٨ لإجبار مئات الألوف الى اخلاء منزلهم وقراهم والهجرة القسرية. عند كتابة هذه السطور، كانت رفح تأوي لا اقل من مليون ونصف لاجيء في خِيَم، يلاحقهم الحقد والقتل وقد باتوا في العراء. الى هذا كله السياسة المتعمدة في جرف مناطق سكنية بأكملها والقضاء على ابرز معالم الحياة في القطاع: القطاع الصحي، المدارس، المؤسسات الإدارية والأمنية.
حتى لا ننسى، قدُّر لمنطقتنا ان تكون اول منطقة في العالم جرّب بها الطيران الحربي لاستهداف المدنيين على سبيل الترهيب او السيطرة او العقاب. وكانت الريادة فيه لبريطانيا. ونستون تشرشل هو صاحب النظرية عندما كان وزير الحرب والطيران في الحكومة البريطانية بعيد الحرب العالمية الاولى. وكان بريتشارد، قائد سلاح الجو البريطاني، قد استخلص من دروس الحرب العالمية الاولى ان «الطائرة سلاح هجومي وليست سلاحا دفاعيا» فتقرر ان تكون أولى تطبيقات تلك الاستراتيجية استخدام الطيران الملكي البريطاني لقمع ثورة العشرين في العراق. وفي العراق ادخل تطوير على أدوات الموت إذ تقرر استخدام الغازات السامّة ضد المدنيين على اعتبارها اقل تكلفة مادية من قتلهم بواسطة القنابل. ولم تتخلف فرنسا عن دورها في تجربة السلاح الجوي على المدنيين العرب المطالبين بالاستقلال عندما قصفت دمشق بالقذائف المتفجرة والحارقة خلال الثورة العام 1925.
المسؤولية الاميركية والاطلسية
تتحمل الولايات المتحدة الاميركية المسؤولية الكاملة عن هذه الحرب التي دعمتها منذ البداية واستنفرت لها دول الحلف الأطلسي وقاد بأيدن رتلا من زعمائه الذي هبوا لزيارة إسرائيل واغداق الدعم وزودتها بكل وسائل القتل والدمار، وزودتها بالمعلومات الاستخبارية وشاركت في عملياتها العسكرية تخطيطا وتنفيذا.
وقد امتحنت إسرائيل ردود الفعل على جرائمها، مجزرة ضد المدنيين تلو المجزرة، فلم تلقَ معارضة تشغل البال من بروكسل او واشنطن الهم الا "حماية المدنيين" وترجمتها في الدوائر الغربية تخفيض عدد الضحايا من المدنيين. وعندما بلغ اهل غزة حدود المجاعة وبات الخطر يتهدد بتجديد الحرب على مليون ونصف مدني في رفح، أطلقت حملة جوية لإسقاط المساعدات بواسطة الطيران والعمل على فتح خط بحري من قبرص الى سواحل غزة. ومع ان واشنطن هددت بوقف الدعم العسكري في حال وقع الهجوم على رفح، الا ان الحكومة الاميركية وافقت على أكثر من مائة صفقة سلاح الى إسرائيل منذ اكتوبر الماضي، كانت آخرها صفقة مقاتلات وصواريخ متطورة، شحنت بعد ذلك التهديد، وتوجّت الدعم بإقرار الكونغرس ١٦ مليار دولار لمساعدة الدولة العبرية. وفوق ذلك لم تتراجع واشنطن ولا حلفاؤها عن قرارها وقف الدعم المالي لمنظمة الأونرا مع ان الحاجة اليها تضاعفت اضعافا مضاعفة بسبب الحرب والحصار والتجويع والتهجير والتشريد.
من جهتة، تولى الاعلام الغربي، اعلام الدول والشركات متعدية الجنسيات، في غالبيته، ارتكاب جريمة إبادة إعلامية جمعية بواسطة الكذب المتعمّد والتزوير والتمييز العنصري بين الضحايا.
ولا بد من التذكير بأن الإبادة الإسرائيلية وانتهاكاتها المتمادية لقوانين الحرب والقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني ومعاهدات جنيف ناهيك عن قرارات مجلس الامن، منذ ان كانت، أفادت وتفيد من عقود من دعم القوى الغربية او التغاضي عن افعالها. وقد أفادت إسرائيل أيضا وخصوصا في الآونة الأخيرة من اطاحة الولايات المتحدة الاميركية بتلك القوانين والمعاهدات منذ إعلانها "الحرب الكونية ضد الارهاب" تلك التجاوزات التي بلغت ذروتها في احتلال أفغانستان والعراق.
في المقابل لا يبدو ان خصوم الولايات المتحدة الدوليين - مطلع الحرب الباردة الجديدة - ذوو وزن كبير في لجم الحرب على غزة. فقد أحبط الاتحاد الروسي مشروع قرار في مجلس الامن لإدانة حركة حماس وآخر يبرر الحرب الإسرائيلية باسم حقها في الدفاع عن النفس. واما الصين فأدانت انتهاكات إسرائيل للقانون الدولي داعية الى مؤتمر دولي للسلام على أساس حل الدولتين.
أوسع حملة تضامن شعبية عالمية
اثارت حرب الإبادة الجمعية الإسرائيلية موجة من التضامن عالمية غير مسبوقة قياسا للتضامن مع أي قضية أخرى، من الاحتجاجات على الحرب ضد العراق الى التضامن مع أوكرانيا. يكفي ذكر التظاهرات والاعتصامات المليونية كل يوم سبت المستمرة في ٥٥ دولة منذ اكثر من اربعة اشهر. والدعوى الجنوب افريقية لدى محكمة العدل الدولية بارتكاب إبادة جماعية والقرار الذي اتخذته بمطالبة اسرائيل منع ارتكاب إبادة جماعية في غزة. دون مطالبتها وقف إطلاق النار. ولكن منذ صدور القرار واظبت إسرائيل على نهج الإبادة الجماعية دون ان يصدر الى الآن قرار جديد من المحكمة.
اللافت هو عدد الدول في اميركا اللاتينية التي قطعت العلاقات مع إسرائيل او استدعت السفراء: فينزويلا، بوليفيا، كولمبيا، تشيلي، هندوراس، نيكاراغوا، والبرازيل الذي شبّه رئيسُها لُولا دا سيلفا جريمةَ الإبادة الجماعية الإسرائيلية في غزة بالمحرقة النازية بحق اليهود. واللافت أيضا نيكارغوا التي اقامت دعوى على المانيا لدى محكمة العدل الدولية بتهمة التواطؤ على إبادة جماعية.
على الصعيد الشعبي، ايقظت فلسطين ارهاصات لنشوء اممية جديدة للعدل والحرية.
اود ان استبقي بعض الحوادث: عمال الموانيء في الهند يرفضون تحميل بواخر نقل السلاح الى إسرائيل؛ "حركة البدون ارض" في البرازيل (مليونا عضو- اكبر حركة شعبية في العالم الثالث) تتبرّغ بالغذاء لغزة؛ مواطنون ارلنديون يتبرّعون بالطعام والادوية لغزة داخل السوبر ماركيتات؛ انتقال حملات مقاطعة إسرائيل من مقاطعة الجامعات والسلع الى حملات الضغط لمنع تزويد إسرائيل بالأسلحة والمساعدات العسكرية. ولا بد هنا من ذكر حركات الاحتجاج العارمة للطلاب والأساتذة في الجامعات الاميركية وقد لحق بهم زملاؤهم في فرنسا وبريطانيا.
الأهم ان حملات التضامن تلك باتت ترتكز الى عوامل داخلية لأنه تعبّر على تناقض متزايد بين قطاعات شعبية واسعة، والسلطات الحاكمة التي تزداد جنوحا نحو اليمين اقتصاديا واجتماعيا ونحو اعتماد سياسات عنصرية ضد المهاجرين والعرب والمسلمين خصوصا. هذا من جهة ومن جهة أخرى، تلقى النفور الرأي العام المتزايد من الأحزاب والتنظيمات الفاشية وشبه الفاشية، التي باتت شبه مجمعة على دعم إسرائيل وقد انقلب لديها العداء لليهود الى عداء للعرب والمسلمين، واحيانًا كثير دون ان تتخلى عن عدائها الأصلي لليهود. لقد تحولت فلسطين اكثر من أي وقت مضى الى جزء عضوي من الحياة السياسية (حركة الاستنكاف عن دعم بايدن لرئاسة جديدة في الحزب الديمقرطي الاميركي) والثقافية ومن فكر وممارسات الحركات الشعبية في أوروبا وأميركا وعلى امتداد الكرة الأرضية. وهذا الرسوخ الداخلي ضمان لتجاوزها مرحلة الاحتجاجات المؤقتة والموسمية نحو الاستمرارية والتصعيد.
الوضع العربي
تكمن نقطة الضعف الكبرى في مقاومة اهل غزة والضفة في الوضع العربي بمجمله.
لا يجوز الاستهانة بالمسيرات الشعبية والاحتجاجات على امتداد العالم العربي، وكثافة التضامن في الأردن خصوصا وطابعه المتمرّد، وما أكدته حرب غزة من طلاق متزايد بين جماهير عربية واسعة وانظمتها. الا ان الحرب ابانت بشكل ساطع المفارقة الفاغرة بين النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي، أي مقاومة الشعب الفلسطيني، وبين النزاع العربي-الإسرائيلي.
نجح اتفاق أوسلو في الفصل بين النزاعين. ونجحت أنظمة الهزيمة في التبرؤ من التزاماتها على طريقة: "ما دام القاضي راضي. هل علينا ان نزايد على أصحاب القضية؟" وارتاحوا في ظل مبادرة سلام عربية لفّقها الملك عبد الله السعودي (مع الالمعي طوماس فريدمان) تقايض الانسحاب الكامل من أراضي ٦٧ بالاعتراف العربي الكامل بالدولة الصهيونية. وفي المقابل نجحت إسرائيل بدعم من الراعي الاميركي في تجويف الاتفاق وصولا الى وقف مفاعليه وتحويل الجهد الاكبر من السلطة الوطنية الى أجهزة لحماية امن إسرائيل. فكأنه من الاوامر الطبيعية ان يلاحق الجيش الاسرائيلي مقاومي الضفة في ضواحي رام الله، عاصمة السلطة الوطنية الفلسطينية!
في مرحلة لاحقة، وبمبادرة من إدارة دونالد ترامب، نجحت الولايات المتحدة الاميركية في جمع قاعدتي سيطرتها في المنطقة - إسرائيل والأنظمة النفطية - لأول مرة في تاريخ النزاع العربي الإسرائيلي. ففي "اتفاق إبراهام" تشابكت حاجة الولايات المتحدة الى التنصّل التدريجي من المنطقة، والتفرّغ المتزايد لمواجهة الصين الشعبية وتسليم امنها الى إسرائيل، مع مشروع بنيامين نتنياهو لقلب المعادلة السابقة القائمة على تحقيق الحد الأدنى من مطالب الشعبي الفلسطيني طريقا للسلام بين العرب وإسرائيل، الى السلام العربي-الإسرائيلي بغض النظر عن شعب فلسطين وبديلا عن تحقيق أي من مطالبه المشروعة.
لم استخدم مصطلح "التطبيع” لاستغرابي كيف درج هذا المصطلح وساد في الاعلام ووسائل الاتصال المجتمعي في بلادنا على اعتباره البداهة عينها. فكأنما الحروب السابقة والتضحيات والاحتلالات وحروب المقاومة والخسائر والشهداء والجرحى والمعوّقين والدمار، في الصراع مع العدو الصهيوني، هي الشواذ فيما الاعتراف بالعدو والتبادل الدبلوماسي معه وتقديم الافضليات والامتيازات له في المجالات المالية والاقتصادية والتكنولوجية والالتزام بإملاءاته في الفروض الأمنية والبرامج المدرسية الاعلام وغيرها هو الطبيعي. هذا حتى لا ننسى تنظيم المناورات العسكرية المشتركة معه. واني أتساءل لقتال أي عدو كانت القوات المسلحة الغربية تتدرب مع الجيش الاسرائيلي في صحراء النقب الفلسطينية؟
المسمّى الفعلي لـ"التطبيع" هو اعتراف عدد من الدول العربية بالدولة الصهيونية (التي تعرّف نفسها دستوريا على انها "الدولة اليهودية") بما هي قوة إقليمية فاعلة والتحالف معها في لعبة جديدة للعلاقات الجيو-استراتيجية في وجه ايران مثلا او توسلا لتحقيق تلك الدول التوازن مع الجمهورية الإسلامية بالتحوّل الى قوة اقليمية بذاتها. وذاك هو دأب العربية السعودية التي تطالب، مقابل الاعتراف وتبادل المصالح، باتفاق دفاع ثنائي مع الولايات المتحدة الاميركية وبتسهيلات اميركية لبناء قدرات نووية للمملكة. ولديك حال الامارات ايضا التي لا تزال تطالب بجائزتها من التطبيع وهو السماح لها بشراء مقاتلات فـ٣٦ من الولايات المتحدة وهي صفقة بعشرات المليارات لا تزال إسرائيل تفرض الفيتو عليها.
كانت مبادرة السلام العربية للعام 2003 تحتضر منذ سنوات. لكن اهيل عليها التراب عمليا عندما اقدمت عدة دول عربية على الاعتراف بإسرائيل قبل الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة. ناهيك عن انه لم يكترث أحد على بنود المبادرة المتعلقة بالدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية وبحق العودة.
وهكذا، على خلفية اقتصار الموقف الرسمي العربي على مطلب وقف إطلاق النار، في الحرب الحالية، ولعب دور الوساطة بين اهل غزة والاحتلال، تتمايز الامارات والبحرين بالتماهي شبه الكامل مع الموقف الإسرائيلي، حتى ان وحدات بحرينية تشارك في الحملة البحرية الاميركية ضد أنصار الله في البحر الأحمر. ولقاء عدم فتح معبر رفح لخروج الفلسطينيين الى الأراضي المصرية، يخضع الموقف الرسمي المصري للقرار الإسرائيلي في مسألة دخول المساعدات الانسانية والغذائية الى غزة، التي تعيش عند حدود المجاعة في الأكثرية من سكانها. هذا إضافة الى وجود مافيا ذات غطاء رسمي تؤمّن الخروج الفردي والعائلي لمن يستطيع دفع الاف الدوارات.
وأود هنا الإشارة الى مفارقتين فاغرتين في السلوك السائد للأنظمة العربية نادرا ما يجري التعامل معهما.
المفارقة الاولى. وفق أي منطق، وبناء على أي سابقة تاريخية، يقع على الطرف المهزوم والمعتدى عليه والمحتل ان يقدّم مبادرات السلام للمنتصر؟ حالة وللمناسبة، هل تقدمت إسرائيل مرة بمبادرة سلام واحدة؟ يقدمون المبادرات عنها بالنيابة. لنقف لحظة ولنتساءل: هل لإسرائيل رؤية للسلام؟ هل لإسرائيل شروط لسلام فلسطيني إسرائيلي وعربي-اسرائيلي؟ المبدأ الذي ارساه دافيد بن غوريون هو ان إسرائيل لا تتحمل ان تخوض المعركة الأخيرة لفرض لإنهاء الصراع مع اعدائها. ما يعني امرين، الاول ان لا سلام بين العرب واسرائيل لأن لا حربا قادرة على انهاء النزاع العسكري، والثاني، ان المنطق الذي يحكم العلاقة بين إسرائيل والجوار هو منطق الحروب المستمرة، وان كل حرب يجب ان تفسح في المجال امام هدنة يجري خلالها تعزيز تطور القوات المسلحة للدولة الصهيونية وقدراتها العسكرية.
في فترة زمنية أقرب، وافقت الدولة الصهيونية على اتفاقية أوسلو. ووضع اسحق رابين حياته ثمنا لتلك الاتفاقية. ولكن شهد أحد معاونيه ان رابين لم يكن ناويا على تطبيقها. كان ثمة خياران امام القيادة الإسرائيلية، في تلك المداولات، اتفاقية مع سورية او مع منظمة التحرير الفلسطينية. وقد اختار رابين اتفاقية مع منظمة التحرير الفلسطينية، لأن الاتفاق مع الفلسطينيين برأيه أسهل ارتداد عليه من الارتداد على اتفاقية مع سورية. وهذا ما حصل!
ولنسأل لو افتراضا: ما هي شروط الاستسلام الاسرائيلية؟ ينوب بعض الغرب عنها بالقول: حماية امن إسرائيل؟ اين يبدأ امن إسرائيل وأين ينتهي امن اسرائيل، وهي الدولة الوحيدة في العالم التي لم ترسّم حدودها، والمعنى الوحيد للامن هو الخضوع للمشيئة الإسرائيلية القائمة على القوة العسكرية المزودة بالسلاح النووي. فمن يعرف سابقة عن احتلال يملك رابع اقوى جيش في العالم، ومزود بمئتي رأس نووي اقلا، يحتل بلدا بأكمله ويخوض حروبا مستمرة ضد الجوار، وابعد من الجوار، وكله بدعوى انه مهدد باستمرار، ويلخص وظيفة الشعب الواقع تحت الاحتلال وشعوب البلدان المجاورة بحماية أمنه. هذا هو التناقض الأصلي والمستمر مع الاحتلال الصهيوني لفلسطين.
المفارقة الثانية. تخوض اسرائيل الحروب ضد الفلسطينيين ولكن العرب - عرب النفط - يموّلون إعادة اعمار ما دمرته كأنما تلك المهمة هي البداهة عينها. في حرب الإبادة الجماعية الحالية أعلنت العربية السعودية، كأنما جوابًا على طلب أميركي، بانها مستعدة للمساهمة في إعادة اعمار عزة شرط تحقيق الدولة الفلسطينية. الا تخرق هذه الممارسة القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني ناهيك عن معاهدات جنيف؟ وبالتأكيد فإن تولي دولا عربية إعادة اعمار ما دمّرته إسرائيل في غزة، التي تعترف ارفع هيئة محكمة دولية بأنه يواز حرب إبادة جمعية، سوف يمرّ مرة أخرى دون مسألة لها عن الاهوال الي ترتكبها ضد الفلسطينيين.
جميع التعليقات 1
مالك علي حمزة
منذ 5 شهور
موقف الشعوب افضل من موقف الحكومات العربية وهذا منذ نشأة الكيان الصهيوني ولحد الان ففي العراق تم حل واعدام احد مؤسسي عصبة مكافحة الصهيونية وكان مؤسسي هذه المنظمة من يهود العراق