طالب عبد العزيز
أعرفُ رجلاً ينتمي لثقافة ما، طائفة ما، معتقداً ما، كنتُ أجالسه، أو كان يقصدني للحديث معي، بوصفي واحداً مختلفاً. هو يتحدث كثيراً، وأنا أصغي، مع علمه بما أنطوي عليه من المعرفة، في حديثه الذي يخوض فيه، في أقل تقدير، لكنه يظلُّ يشرّق ويغّرب، ويأتي بالمثل والحديث والرواية، فيما أنا ما أزال مصغياً، لا أملك إلّا أنْ أؤمّن، مُهمهِماً، على ما يقول، منتظراً أنْ (يبلعَ ريجه) ويتنفس هواءً غير المحشوّ برئتيه، يسوؤني أمره والله، فأشفقُ عليه، وأجعلُ من كلِّ كلمة قالها يقيناً أقطعُ بصدقه، وأبتسمُ في وجهه، حتى إذا ارتخت أوداجه إطمأننتُ لحاله، اِنصرفَ.
أعترف، بأنني في البداية ما كنتُ أتصالح معه الى الحدِّ هذا، فقد كنتُ أقارعه القول بالقول، والحجة بالحجة، وكثيراً ما وجدته منقطعاً، لا يجد الدليل، ولا يقوى على دفع تهمة الجهل، التي أنسبها ضمناً اليه، مرَّ زمنٌ طويلٌ كنتُ مستمتعاً فيه بــ (نصر) سأسخّفه مع نفسي بعد حين. الحق أقول ما كنتُ لأتوصل معه الى النتيجة(الإصغاء والشفقة)إلا بعد أنْ نبّهني إبني قائلاً:" بابا. اِرحمه، فالرجل لديه إجابات مسبقة عن كلِّ ما سألك عنه وتحدَّث به، هو لا يصغي إليك، اِبحرْ في عينيه قليلاً، أنظرْ الى تفاحة آدم التي في عنقه كيف تروح وتجيئ، هو لا يريد منك إلا أنْ تسلّم بما يقول، فلا تحمّله فوق طاقته في الحديث، أشفق عليه بالصمت أرجوك، هناك جرعة من حقيقة زائدة، تعاطاها الرجل، تشبه جرعة الكوكائين، التي يتعاطاها المدمنون، أتركه مستمتعاً بها، ولا تحاوره. !!
نعم، فالحوار العربيُّ العربي صعبٌ، وزادته الانقاسامات القبلية والطائفية والسياسية اليوم صعوبةً، ومن أراد أن يحاور عربياً فعليه ألّا يتوقع منه تسليماً، هو مثل الثأر، والعربيُّ لا لايضام ولا ينام على ثأر، ولا يسامح، ولا يصالح، بل، هو يضمر أكثر مما يعلن إنْ خسر معركة ما، ولا يعنيه الحق والباطل، أبداً، ولطالما سمعت أّمّي تقول: (الغلبْ جود لوجان لِعْبْ جعاب) (كل جيم في الجملة أعجمية بثلاث نقط) وتاريخنا العربي يطلعنا على عشرات الأمثلة. ومع كل المُثل السامية التي جاء بها دين محمد لم يستطع أنْ يفعل شيئاً من صفح وتسامح في نفوس العرب، حتى أنَّ جملة(هذا ابن قتّال العرب) التي صِيحَ بها في معركة الطف كانت مدعاة لقتل الحسين، لما فعله أبوه في معارك بدر وأحد والجمل وصفين والنهراون، الجملة التي نسفت الدين الجديد تماماً، فقد نُحّيت العقيدة كسبب لقتل ابن بنت التي جاء بها.
جبال من غضب عارم نجدها خلف تلال اللطف والحنو العاطفة التي يتظاهر بها أهلنا، ووراء كلمات الصلح والصفح والتسامح والعفو التي نسمعها هناك وهناك موجٌ طاغ من الضغائن والأحقاد الدفينة. نحن أمُّة تريد أنْ تنتصرَحسب، أمّة فيها شيءٌ من أوراسية غير بيضاء، لا تعرف الهزيمة، وإن كلف ذلك حياة أبنائها جميعاً. ولا أعرف ما إذا كان قولي هذا مديحاً أم لا، فالحمقُ محمودٌ عندهم، والتهوّر مقبولٌ، وكلّهم يفسرُ جملة عمر بن الخطاب(أنصرْ أخاك ظالماً ومظلوماً) أيْ أحمل السلاح معه. ولهذا نسمعُ من أكابرهم داخل مضافات الصُلح، وفي تهديد ضمني واضح، بأنهم غير ضامنين لتهوّر الشباب، واحتمال قيامهم بفعلٍ غير محمود، وهذه رسائل تهديد يتبادلها الطرفان المختصمان الجالسان في مجلس الصلح ذاته، وهكذا يتم الإعلانُ عن القبول تحت تهديد المضمر من العداوة. لهذه وتلك لنْ أحاورَ عربياً بعد.