اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناطر: بين خطابين قاتلين

قناطر: بين خطابين قاتلين

نشر في: 30 يونيو, 2024: 12:41 ص

طالب عبد العزيز

سيكون العربُ متقدمين على كثير من شعوب الأرض بمعرفتهم، وإحاطتهم بما هم عليه، وما سيكونوا فيه في خطبة حكيمهم وخطيبهم الأكبر قس بن ساعدة الإيادي(حوالي 600 ميلادية، 23 سنة قبل الهجرة) هذا الذي يقول:" "أَيُّهَا النَّاسُ: اسْمَعُوا وَعُوا، مَنْ عَاشَ مَات، وَمَنْ مَاتَ فَات، وَكُلُّ مَا هُوَ آتٍ آت.. مطر ونبات، وأرزاق وأقوات، وآباء وأمهات، وأحياء وأموات، جمع وأشتات، لَيْلٌ دَاج، وَنَهَارٌ سَاْج، وَسَماءٌ ذَاتُ أبْرَاجٍ، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، ومهاد موضوع، وسقف مرفوع، ونجوم تَمور، وبحار لا تغور، وَنُجُومٌ تَزْهَر، وَبِحَارٌ تَزْخَر…." والخطبة زاخرة ومحكمة، وعقلية، بمتخيل بسيط، تفصح عن فكرٍ مدرك، لكثير من شؤون الناس وطبيعة الحياة والمصائر آنذاك.
ويصنّف الباحثون في نثر العرب خطبة الجمعة التي كانت للنبي محمد(ص) في المدينة عقب هجرته الى هناك بانها أول خطبة في الاسلام، لكنهم يختلفون في روايتها تقديماً وتأخيراً والتي منها:".. أيُّها النَّاسُ: فَقدِّموا لأَنْفُسِكُم، تَعْلَمُنَّ واللهِ لَيَصْعَقَنَّ أَحَدُكُم، ثم ليدَعَنَّ غنمه ليس لها راعٍ، ثم ليقولَنَّ له ربُّه، ليس له تُرجُمان ولا حاجب يَحْجُبُه دونَه: أَلمْ يَأْتِكَ رَسُولي فبلَّغَكَ، وآتَيْتُكَ مَالًا، وأَفْضَلْتُ عليك، فما قدَّمْتَ لنَفْسِك؟ فَلَيَنْظرَنَّ يَمينًا وشِمالًا، فلا يرى شيئًا، ثم لَيَنْظُرَنَّ قُدَّامَه، فلا يرى غير جَهَنَّمَ، فمن اسْتَطاعَ أن يَقِيَ وَجْهَهُ مِنَ النَّارِ ولو بِشِقَّةٍ مِنْ تَمْرَةٍ فلْيَفْعَلْ.. " ولسنا في وارد الحكم والتفضيل بين الخطبتين، إلا أنَّ استخلاصاً بسيطاً لخطبة قس يؤكد بحثها في شؤون حياة الانسان الدنيوية فيما تذهب خطبة النبي الى ما هو أخروي أكثر مما هو حياتي.
تقودنا الخطبتان الى التفريق بين خطابين عربيين، ظلّا يوجهان الحياة العربية الاسلامية، طوال قرون من الزمن. خطاب (يومي ومعاش وحياتي)وآخر(وعظي وغيبي وأخروي) الأمر الذي انسحب علينا جميعاً، فالعربي المسلم وإلى اليوم صنيعة هذين الخطابين في يوم واحد، فهما يجتذبانه منذ الصباح الى المساء، ولا يستطع التوفيق بينهما، وهما يعملان على تكوينه المنقسم ذاك، والمتردد بين الإقدام والاحجام، بين الخضوع والرفض، بين التسليم والثورة. لم يؤسس أحدٌ خطاباً ثالثاً، يجمع بين التوجهين، أو يوائم بينهما، ويأخذ بيد العربي المسلم الى ما يتوجب عليه إتباعه، والاخذ به، ولم يتوقف الأمر هذا على الفرد بذاته، إنما خلق نمطاً حياتياً، تماهى البعضُ العريض معه، حتى لم يعد يشعر به، وظلَّ بعضٌّ متأرجحاً بين بندولين لا يستقران على نقطة بعينها.
ربما تقودنا قراءة التاريخ العربي الاسلامي الى أنَّ خطب الخلفاء والأمراء في فترة ما كانت قد إقتصرت على الوعظ، والتوجيه الديني –الاخلاقي، والوعد بالجنة، والتهديد بالنار، لكنَّ اتساع رقعة الدولة والحروب بين المختلفين، واغراءات الحكم غيّرت مسار الخطب، وجاءت بموجهات جديدة، كنتيجة لما فرضه الواقع المحتدم، أو الحرب الصريحة بين الطبقات الاجتماعية أو ما سيسميه البعض باليمين واليسار في الاسلام(علي ومعاوية)إنموذجاً، وهذا ما يتضح في خطبة علي بن ابي طالب على سبيل المثال لأصحابه وقد أصابهم ما أصابهم، فهو وإن دعاهم الى الجهاد والترغيب بالجنة لكنه صاح فيهم: ".. ألا وإنى قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلا ونهارا، وسرا وإعلانا، وقلت لكم: اغزوهم قبل أن يغزوكم، فوالله ما غزى قوم قط فى عقر دارهم إلا ذلوا فتواكلتم وتخاذلتم، وثقل عليكم قولى واتخذتموه وراءكم ظهريّا، حتى شنّت عليكم الغارات. هذا أخو غامد قد وردت خيله الأنبار، وقتل حسان، وأزال خيلكم عن مسالحها، وقتل منكم رجالا صالحين.
وهنا نجدُ علياً يجمع بين الأمرين(المتخيل والواقعي) فدخل الواقع من باب المتخيل، أو أنه وجد في قفل المتخيل مفتاح الواقع، حتى لنعتقد بأنَّ ذلك كان من موجبات المرحلة تلك، بل ويتطابق جوهرياً مع شخصية الامام علي، التي تجمع بين الضدين، بشكل واضح، على العكس من شخصية معاوية، التي لا تقيم شأناً للمتخيل(الديني) فهذا هو يخاطب أهل المدينة قائلاً:" يا أهل المدينة، إني لست أحبُّ أن تكونوا خَلقًا كخلق العراق، يعيبون الشيء وهم فيه، كل امرئ منهم شيعة نفسه. فاقبلونا بما فينا فإن ما وراءنا شر لكم، وإن معروف زماننا هذا منكر زمان قد مضى، ومنكر زماننا معروف زمان لم يأتِ، ولو قد أتى فالرتق خير من الفتق. وفي كلٍّ بلاغ. ولا مقام على الرزية".
وإذا كان معاوية لم يصرّح متوعداً أو بدا متوسلاً بقوله(إقبلونا بما فينا) وأبقى شيئاً من إغراء المتخيل، وإحالة أمر الحكم وامكانية دخول الجنة أو النار الى الله، أوعلى وفق ما صار الناس اليه، فأن زياد ابن أبيه والحجاج بن يوسف وسواهما جردوا الخطاب من المتخيل هذا وباتوا أقرب الى الواقع السياسي، القائم على القوة والعنف وأحكام القبضة. خطب زياد ابن ابيه في البصرة، بعد سوء أحوالها، ومضطرب ناسها:" حرام عليَّ الطعام والشراب حتى أسويها بالأرض هدمًا وإحراقًا" و " فإياي ودُلج الليل فإني لا أوتي بمدلج إلا سفكت دمه." وهذا الحجاج يقول لأهل الكوفة: ".. أما والله إني لأحمل الشر بحمله، وأحذوه بنعله، وأجزيه بمثله. وإني لأرى رؤوسًا قد أينعت وحان قطافها، وإني لصاحبها. وإني لأنظر الدماءَ ترقرق بين العمائم واللحى".
يلاحظ متصفح الخطب في الاسلام عند الولاة المتجبرين(أمويون وعباسيون) بخاصة أنهم يركبون فرس المتخيل الأخروي ويغيرون به على خصومهم، يقطعون أعناقهم، ويسلبون اموالهم، ويقهرونهم، فهم يجدون في الشريعة والحديث والسيرة مداخلَ لذلك، وهذه مطية ذلول، وجادة تبيح لهم ما يفعلون. سيبقى العربي المسلم أسير هذين الأمرين، اللذين لم ينصفانه، وتحت وطأة التخادم بين الخطابين لن يعثر على حياته أبداً.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

اليوم ..خمس مباريات في انطلاق الجولة الـ 36 لدوري نجوم العراق

بدء التصويت في انتخابات فرنسا التشريعية

"واتساب" يختبر ميزة جديدة عند الفشل بارسال الصور والفيديوهات

تطوير لقاحات جديدة للقضاء على الحصبة نهائياً

الأونروا: سكان غزة فقدوا كل مقومات الحياة

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

المتفرجون أعلاه

جينز وقبعة وخطاب تحريضي

تأميم ساحة التحرير

زوجة أحمد القبانجي

الخارج ضد "اصلاحات دارون"

العمودالثامن: جمهورية بالاسم فقط

 علي حسين ماذا سيقول نوابنا وذكرى قيام الجمهورية العراقية ستصادف بعد أيام؟.. هل سيقولون للناس إننا بصدد مغادرة عصر الجمهوريات وإقامة الكانتونات الطائفية؟ ، بالتأكيد سيخرج خطباء السياسة ليقولوا للناس إنهم متأثرون لما...
علي حسين

قناديل: لعبةُ ميكانو أم توصيف قومي؟

 لطفية الدليمي أحياناً كثيرة يفكّرُ المرء في مغادرة عوالم التواصل الاجتماعي، أو في الاقل تحجيم زيارته لها وجعلها تقتصر على أيام معدودات في الشهر؛ لكنّ إغراءً بوجود منشورات ثرية يدفعه لتأجيل مغادرته. لديّ...
لطفية الدليمي

قناطر: بين خطابين قاتلين

طالب عبد العزيز سيكون العربُ متقدمين على كثير من شعوب الأرض بمعرفتهم، وإحاطتهم بما هم عليه، وما سيكونوا فيه في خطبة حكيمهم وخطيبهم الأكبر قس بن ساعدة الإيادي(حوالي 600 ميلادية، 23 سنة قبل الهجرة)...
طالب عبد العزيز

كيف يمكن انقاذ العراق من أزمته البيئية-المناخية الخانقة؟

خالد سليمان نحن لا زلنا في بداية فصل الصيف، انما "قهر الشمس الهابط"* يجبر السكان في الكثير من البلدان العربية، العراق ودول الخليج تحديداً، على البقاء بين جدران بيوتهم طوال النهار. في مدن مثل...
خالد سليمان
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram