حميد الكفائيالمتعصبون دائماً عبيد لفكرة أسرتهم وسيطرت على تفكيرهم ومشاعرهم، لا يستطيعون مغادرتها مهما ابتعدت بهم ظروف الحياة وتطلبت واجباتهم ومصالحهم، بل ومصائرهم أحياناً، أن يعدلوا عنها ويفعلوا غيرها. إنهم دائماً أسرى للنظرية ولا يكترثون للواقع العملي أو المصلحة، لذلك فهم لا يصلحون لقيادة المجتمع الذي تهمه مصالحه بالدرجة الأساس. فقد أصرت حركة "طلبان على هدم تماثيل بوذا في جبال باميان النائية، والتي وقفت شامخة لأكثر من 1600 عام،
ولم يستجبوا لمناشدات العالم أجمع بالإبقاء عليها باعتبارها مقدسة لدى ملايين الناس وكونها إحدى المعالم الثقافية النادرة التي ترعاها منظمة اليونسكو. أصروا على هدمها، وجاءوا بمدافعهم وصواريخهم واجتثوها من جذورها وكأن بقاءها سيهدد بلدهم ومصالح شعبهم ومستقبل أجيالهم، وبقي هؤلاء يفرضون أحكامهم البدائية المتشددة على أهالي أفغانستان حتى أزالتهم القوات الأميركية عن الحكم بعدما برهنوا بما لا يدع مجالاً للشك بأنهم خطر يهدد العالم إذ أصبحت أفغانستان في عهدهم مأوى للمتعصبين والباحثين عن البطولة أو الشهادة. وفي كمبوديا، قتل بول بوت ربع سكان بلاده في الأعوام 1975-1979 لتعصبه لأفكار غريبة معادية للعلم والثقافة والإنسان المختلف عنه، وجعل من جيشه، الخمير الحمر، آلة للقتل والتهجير والتعذيب، ولم يرتح شعبه منه إلا عندما تدخلت فيتنام المجاورة وأطاحت به عسكرياً ولكن بعد مقتل مليونين ونصف المليون كمبودي في أغرب حملة عرفها التاريخ لإعادة البلاد إلى «العام صفر»!ومنذ زوال حكمه وحتى الآن بدأ المتعصبون يزحفون على العراق من كل أصقاع العالم الإسلامي وأهدافهم متباينة، فمن «محاربة المحتل الأميركي"إلى محاربة العراقيين من «الكفرة والمارقين والخونة"وما إلى ذلك من توصيفات تخصص في إبداعها المتطرفون. وكأن نشاطات المتطرفين الأجانب، الذين ملأوا العراق رعباً وقتلاً وحرائق وخرائب، غير كافية، فقد طوّر العراقيون تطرفاً محلياً ولّد حرباً طائفية دامت ثلاثة أعوام على الأقل ولم تهدأ حتى حصدت آلاف الأرواح البريئة وتسببت في ترويع وتهجير الملايين.ولم ينج الأكاديميون والفنانون والطيارون والعلماء والصحافيون من إرهاب المتطرفين، بل قُتل منهم المئات في ظروف غامضة. لكن عزاء العراقيين في كون هذا الإرهاب قد مارسته جماعات مسلحة خارجة على القانون، أو على الأقل هذا ما تقوله الجهات الرسمية، لكن إقدام حكومة بغداد المحلية قبل أيام على إغلاق محال بيع الخمور والمطاعم التي تقدم المشروبات الكحولية لزبائنها، والنوادي الليلية والاجتماعية، بما فيها نادي الأدباء، قد تم بقرار رسمي من مجلس «منتخب»، وقد تم هذا الأمر بعد إجراء الانتخابات وتكليف المالكي بتشكيل الحكومة وفي وقت ينشغل العراق بتقاسم السلطة، وإيجاد الحلول لمأساة المسيحيين والاعتداءات المتكررة عليهم، لكن هذا القرار أضاف إلى مآسيهم بأنه أغلق محالهم ومطاعمهم ونواديهم ولم يترك لهم فسحة من الحياة في العراق «الديموقراطي». التطرف أخذ يزحف على الحكومات المحلية، فقبل أسابيع عدة منع المتشددون في مجلس محافظة بابل الغناء في مهرجان غنائي دعت إليه وزارة الثقافة نفسها وعاد المشاركون الأجانب دون أن يقدموا عروضهم ويسمِعوا أغانيهم للمشاركين. وفي البصرة منع مجلس المحافظة عرضاً فنياً قبل أسابيع عدة وقدم حججاً واهية لقرار المنع، لكن الحقيقة واضحة للجميع وهي أن أعضاء هذه المجالس لا يرغبون في أن يروا نشاطاً مخالفاً لقناعاتهم الدينية التي تحرِّم الخمور والغناء والعروض الفنية. كل ادعاءاتهم بالتعايش مع الآخرين والقبول بالآخر بدأت تتهاوى أمام تعاملهم مع الواقع. إنهم يسيرون في اتجاه واحد مخالف للوجهة التي يسير بها العالم، بينما يسخّرون كل ما جادت به العلوم والتقنيات البشرية لخدمة هذا التوجه الخطير. أسئلة كثيرة ومهمة بحاجة إلى أجوبة هنا: لماذا يعتقد المتشددون الدينيون أنهم قادرون على حمل الناس جميعاً على الانصياع لرغباتهم والإيمان بآرائهم في وقت يتجه العالم كله نحو التعددية واحترام خيارات الآخرين السلمية مهما كانت مختلفة؟ عن صحيفة الحياة بتصرف
التعصب يستهدف الديمقراطية والحياة المدنية
نشر في: 13 ديسمبر, 2010: 07:10 م