اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > صناعة الوهم: قراءة في تصنيف التايمز لاهداف التنمية المستدامة

صناعة الوهم: قراءة في تصنيف التايمز لاهداف التنمية المستدامة

نشر في: 2 يوليو, 2024: 12:13 ص

د. طلال ناظم الزهيري

قبل أيام قليلة، صدر تقرير التايمز عن مساهمة الجامعات العالمية في السعي لتحقيق أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة. ومع ظهور نتائج التقرير، أذهلتنا بوادر الاحتفال بالتقدم الكبير الذي تحقق على مستوى جامعاتنا العراقية، حتى وصل الأمر إلى حد أن رئيس مجلس الوزراء ومعالي وزير التعليم العالي غردا بهذا الإنجاز غير المسبوق. دفعني الفضول إلى إعادة قراءة تغريدة رئيس الوزراء، المعطوفة على تغريدة معالي وزير التعليم العالي والبحث العلمي التي قال فيها: "نبارك للعراق حصوله على المركز الأول عربياً والسابع عالمياً في تصنيف التايمز للتنمية المستدامة من حيث عدد الجامعات المشاركة في نسخة 2024، والتي شهدت تنافس 2152 جامعة من 125 دولة". وأضاف أن ما تم تحقيقه يؤكد نجاح رؤية الحكومة ونهجها الداعم لتحقيق الجودة الشاملة في التعليم العالي.
وبطبيعة الحال، كان السيد رئيس الوزراء دقيقا في تعبيره عندما أضاف عبارة (من حيث عدد الجامعات المشاركة). وهنا لا أريد أن أفسد الفرحة أو أن أنظر إلى النصف الفارغ من الكأس، ولكن من حقنا نحن الأكاديميين أن نتساءل بحسن نية: أين هو الإنجاز في هذا الأمر؟ وكيف أصبح عدد الجامعات المشاركة في التصنيف إنجازاً؟ علما أن جامعاتنا العراقية كانت متذيلة الترتيب عربياً وعالمياً في هذا التصنيف. كيف يمكن أن نعد هذا الأمر إنجازاً وجامعة بغداد العريقة جاءت في المرتبة الأربعين عربياً؟ وكيف يمكن أن نعد هذا الأمر إنجازاً ومعظم جامعاتنا تراجعت إلى المراتب المتأخرة عالمياً؟ كيف نعد هذا الأمر إنجازاً وأفضل معدلات لأهداف التنمية المستدامة لجامعاتنا كانت مابين (44-58%)؟.
والآن دعونا نوضح طريقة عمل التصنيف لنثبت أن بإمكان أي دولة إذا أرادت أن تحقق المرتبة الأولى عالمياً من حيث عدد الجامعات المشاركة. ببساطة، الدخول في التصنيف اختياري بمعنى أن ظهور الجامعات العراقية لم يكن بسبب جودتها وفعالياتها في السعي لتحقيق التنمية المستدامة، وإنما برغبة منها من خلال التسجيل في قاعدة بيانات التصنيف، ثم عليها أن ترسل بياناتها حتى يتم تحليلها ووضعها في الترتيب المناسب. وهنا أستغرب كيف فات المحتفلون غياب جامعات هارفرد وكامبريدج ونيوكاسل والسوربون والعشرات من الجامعات العالمية العريقة من هذا التصنيف. ولماذا لم تظهر الجامعات الأمريكية الرصينة باستثناء بعض الجامعات الحكومية الضعيفة التي لم يسمع بها أحد من قبل؟ الجواب ببساطة أن الجامعات العريقة تدرك تماماً أنها عريقة وسمعتها العلمية لا تحتاج إلى رتبة في هذا التصنيف أو ذاك، فضلاً عن أنها لا ترهن نفسها بتقييم جهات ومؤسسات لا أحد يعرف من ورائها. من المحزن أن نضع جامعة بغداد وغيرها من الجامعات العراقية العريقة تحت رحمة التصنيفات. إن الارتقاء بالتعليم العالي طريقه يختلف تماماً عن نتائج التصنيفات، وأكاد أجزم أن الجميع يعرف مسارات هذا الطريق، إلى أن قرار السير فيه مؤجل في الوقت الراهن.
وعودة على ذي بدء نراجع طريقة عمل التصنيف حيث يتم احتساب التقييم النهائي للجامعات بناءً على أعلى أربعة أهداف من أهداف التنمية المستدامة (SDGs) والتي يمكن أن تحقق فيها الجامعة أفضل أداء. تتضمن هذه الأهداف عادةً الهدف (17) والذي يمثل عقد الشراكات لتحقيق الأهداف كجزء ثابت من التقييم بالإضافة إلى ثلاثة أهداف أخرى من اختيار الجامعة. نؤكد مرة أخرى (من اختيار الجامعة) والقصد في ذلك أن الجامعة هي التي تحدد الأهداف التي سوف تتنافس عليها من الأهداف (16) الأخرى وفقاً لإنجازاتها فيها. وعليه يتم تقييم أداء الجامعة في كل هدف من الأهداف بناءً على المؤشرات المحددة له ليتم بعدها حساب معدل الإنجاز لكل هدف من الأهداف الثلاثة بالإضافة إلى الهدف (17) الذي كما أشرنا سابقا أنه إلزامي، وطبيعة الإلزام جاءت من حيث أن تحقيق أي هدف يتطلب عقد شراكات، على سبيل المثال هدف الطاقة النظيفة يمكن أن يتم من خلال عقد شراكة بين الجامعات ووزارة الكهرباء لتطوير منظومات الطاقة الشمسية، وهكذا بالنسبة لباقي الأهداف. لاحقاً يتم حساب التقييم النهائي للجامعة بناءً على الأداء في هذه الأهداف الأربعة. وتكون النتيجة الحصول على معدل التقييم الذي على أساسه تحدد رتبة الجامعة. حقيقة هذا النهج يسمح للجامعات بالتركيز على المجالات التي تكون فيها أقوى وتحقق أكبر تأثير. ومع هذا فشلت عموم الجامعات العراقية في تحقيق أي مرتبة متقدمة.
والآن بعد أن أثبتنا أن ما تحقق لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يعد إنجازاً ما لم تحتل النسبة الأكبر من هذه الجامعات مراتب متقدمة. ومع أني شخصياً مع نخبة كبيرة من المتخصصين أجد أن السعي وراء هذا التصنيف أو ذاك هو هروب إلى الأمام، لا يسمن ولا يغني من جوع. حتى أننا غالباً ما نكتشف أن الجامعات العالمية العريقة غير مكترثة بنتائجها رغم أن بعض التصانيف تحاول أن تغازل هذه الجامعات بوضعها في المراتب الأولى. وفي هذا السياق، كنت أحرص دائماً على زيارة موقع جامعة هارفرد عندما يظهر ترتيبها في المرتبة الأولى عالمياً في أي مقياس، لكني أكتشف أن ليس هناك من يهتم من قيادات الجامعة بهذه النتائج حتى أن الموقع لا يضع أي خبر عن الموضوع عكس حالنا الذي قد يصل إلى نحر الأضاحي لمجرد أن نظهر في التصنيف بصرف النظر عن المرتبة التي ظهرنا فيها.
بالتالي، إذا كان التخلي عن الاهتمام بنتائج التصانيف العالمية للجامعات العراقية مستحيلاً في الوقت الراهن لأي اعتبار، يصبح من واجبنا كمتخصصين في قياسات المعلومات أن ندلكم على أقصر الطرق لتحقيق ترتيب أفضل لجامعاتنا مستقبلاً. بداية، على كل جامعة اختيار الأهداف الثلاثة التي تتوفر لديها الموارد والقدرة على تحقيقها بأفضل طريقة. على سبيل المثال، الهدف الثالث (3) حول الصحة الجيدة الذي يتضمن ثلاثة مؤشرات أساسية وهي: الأبحاث في مجال الصحة والطب، والخدمات الصحية المقدمة للطلاب والعاملين، فضلاً عن المبادرات المجتمعية لتعزيز الصحة العامة. وهنا على الجامعة أن تعمل الآتي:
1.عقد شراكة واتفاقيات تعاون بين الجامعة ووزارة الصحة والتي يمكن أن تتضمن حملات تلقيح للطلبة والعاملين وتوفير الرعاية الصحية المستمرة للطلبة والعاملين في الجامعة من خلال المراكز الصحية فيها.
2.توجيه كليات الطب في الجامعات العراقية إلى تنفيذ حملات ميدانية للرعاية الصحية للمناطق النائية والمساهمة في حملات الإغاثة للمناطق التي تتعرض للكوارث.
3.عقد الشراكات مع المنظمات المحلية والعالمية التي تركز أنشطتها على الجانب الصحي.
4.تعزيز هذه الجهود بإجراء البحوث والدراسات الطبية ودعم أصحاب براءات الاختراع في المجال الطبي، على أن يتم توثيق كل هذه الأنشطة وعرضها من خلال مواقعها الرسمية.
هذه هي الطريقة التي تضمن الجامعات من خلالها تحقيق معدلاً عالياً في هذا التصنيف، وينطبق الأمر على الهدفين الآخرين. علماً أن هدف الشراكات سوف يتحقق تلقائياً من خلال السعي لتحقيق أي من الأهداف الأخرى.
أما على المدى البعيد، لابد لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي من وضع سياسات واستراتيجيات واضحة لتحقيق أهداف التنمية المستدامة من خلال الآتي:
1.إنشاء فرق متخصصة في كل جامعة مهمتها جمع وتوثيق البيانات المتعلقة بأهداف التنمية المستدامة من خلال تطوير نظم معلومات متكاملة لتسهيل الوصول إلى البيانات وتحليلها.
2.تعزيز التعاون مع الجامعات والمؤسسات البحثية الدولية والمشاركة في برامج ومشاريع مشتركة تدعم أهداف التنمية المستدامة.
3.تشجيع الأبحاث التي تعالج قضايا التنمية المستدامة المحلية وتوفير التمويل والدعم اللازمين للباحثين في مجالات الاستدامة.
4.تطبيق تقنيات الطاقة المتجددة في الحرم الجامعي وتحسين إدارة الموارد المائية والنفايات.
5.إطلاق مبادرات وبرامج توعية تستهدف المجتمع المحلي وتشجيع الطلاب وأعضاء هيئة التدريس على المشاركة في الأنشطة التطوعية والمجتمعية.
6.تضمين أهداف التنمية المستدامة في خطط التنمية الجامعية، فضلاً عن تضمين موضوعات التنمية المستدامة في المناهج الدراسية.
7.إنشاء حاضنات ومسرعات أعمال تركز على المشاريع المستدامة، والحرص على تشجيع الطلاب وأعضاء هيئة التدريس على تقديم أفكار وحلول مبتكرة للمشكلات البيئية والاجتماعية.
8.تحديد مؤشرات أداء رئيسية لقياس التقدم نحو تحقيق أهداف التنمية المستدامة من خلال مراجعة الأداء بشكل دوري وتحديد المجالات التي تحتاج إلى تحسين.
9.نشر تقارير دورية حول إنجازات الجامعة في مجال التنمية المستدامة وتعزيز الشفافية من خلال الإفصاح عن السياسات والممارسات المتعلقة بالاستدامة.
10.إنشاء منصات تفاعلية لجمع الأفكار والمقترحات من الطلاب وأعضاء هيئة التدريس حول كيفية تحسين أداء الجامعة في مجال التنمية المستدامة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 2

  1. وسيل ابراهيم الجنابي

    منذ 1 ساعة

    لا غيضت بحارك كيف يمكن لجامعات لا يدرس فيها كتاب وتعتمد على الملازم حصرا ان يكون لها تصنيف ضمن الكبار مثلا ناهيك عن الكثير الكثير غيرها تحياتي لشخصكم الكريم

  2. غفران محمد

    منذ 1 ساعة

    عاشت انامك دكتور. انت دائما تنطيهم الحلول نتمنى ياخذوها بعين الاعتبار🙏

يحدث الآن

ملحق منارات

الأكثر قراءة

المتفرجون أعلاه

جينز وقبعة وخطاب تحريضي

تأميم ساحة التحرير

زوجة أحمد القبانجي

الخارج ضد "اصلاحات دارون"

العمودالثامن: ليالي السعادة من هلسنكي إلى أبو ظبي

 علي حسين ظل السؤال الذي يشغل الفلاسفة عبر العصور هو :" كيف يمكننا أن نزيد حظوظنا من السعادة ؟". وكان سقراط يصر إن السؤال يجلب لنا الحقيقة وهذه الحقيقة هي التي ستدلنا على...
علي حسين

صناعة الوهم: قراءة في تصنيف التايمز لاهداف التنمية المستدامة

د. طلال ناظم الزهيري قبل أيام قليلة، صدر تقرير التايمز عن مساهمة الجامعات العالمية في السعي لتحقيق أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة. ومع ظهور نتائج التقرير، أذهلتنا بوادر الاحتفال بالتقدم الكبير الذي تحقق على...
د. طلال ناظم الزهيري

مشروعنا الوطني.. بين التكاملية والكماشات

ثامر الهيمص مشروعنا الوطني المستقبلي وخيارنا الاخير، بعد عالم النفط وريعيته التي عجزنا عن تسويقه محليا، اي بتصنيعه او لاستخدامه رافعة حقيقة للصناعة والزراعة منذ اكتشافة اي قبل قرن تقريبا. والان وصلنا لحلقته المفرغة...
ثامر الهيمص

ترمب يتقدَّم… الرجاء ربطُ الأحزمة

غسان شربل خرجَ جو بايدن من المبارزة مع دونالد ترمب جريحاً. خانَه العمر ومن عادتِه أن يفعل. خيانة في لحظة الذروةِ وأمام عشراتِ الملايين المسمَّرين أمامَ الشاشات. فشلَ بايدن في لعبِ دور الهداف. وفي...
غسان شربل
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram