فخري كريم
في واحدة من أعظم مآثر شهادة الإمام الحسين (ع) هي قابليتها المتجددة على الحضور الطاغي في الوجدان الشعبي، كلما مرت ذكراها، هذا الحضور الذي تمتزج فيه الطقوسية بالدرس،
ويمتزج الوجدان بالعقل، والعاطفة بالتفكير، والعَبرة بالعِبرة.في التاريخ الوطني، بانكساراته وانتصاراته، على مدى القرون..كان الحسين حاضرا،مرةً كمأساة وأخرى كملهم ومعلم وهادٍ إلى حيث ينبغي أن تكون البطولة،
والى حيث يجب التحدي، والى حيث تنتصر القيم فيما تتهاوى الرذائل.
لم تغب المأساة الكربلائية عن الضمير الشعبي لتستعاد في مناسبة ذكرى وقوعها..فهي ماثلة في الثقافة الاجتماعية في كل حين وفي كل تفاصيل الحياة اليومية..وما استعادتها في ذكراها السنوية إلا تتويج وتكثيف لزمن عمره قرون في أيام معدودات هي أشبه ما تكون بمحطة تتجدد فيها المأساة لتتجدد معها الملحمة، ملحمة الصبر والعزم والتحدي والثبات على قيم الحق الرفيعة.
ولم تغب مأساة كربلاء عن أدب العراقيين وفنونهم طيلة هذه القرون، بل يمكن القول أنها أسهمت في صنع هذه الآداب والفنون وأسبغت عليها بأطياف حزنها وتراجيديتها، كما أسهمت في مدها بجرأة المواجهة، مواجهة الطغيان والرذيلة والانتصار للمثل السامية الرفيعة، تلك التي ترتفع بالإنسان وتسمو بكرامته ويترفع معها عن الخنوع والاستسلام للظلم والجور.
هذه هي القيمة الرمزية العظيمة للحسين الشهيد في حياة العراقيين، وهذه هي القيمة الرفيعة لكربلاء في تاريخ العراق.
ففي ضمير كل عراقي شيء من الحسين..وفي تراب كل مدينة عراقية شيء من طهر كربلاء.
وحين نقول كل عراقي فإننا نعني ما نقول..ذلك هو العراقي الذي يتجوهر فيه معنى الانتساب إلى العراق، بكل ما يعنيه هذا الانتساب من شرف ومسؤولية.
لا يستطيع العراقي إلا أن يسعى للتماهي مع صورة الحسين، بطلا وثائرا، مضحيا وصابرا، جريئا ومتحديا..ومن هنا، من حيث يقدر العراقي على أن يتوفر على هذا الجانب أو ذاك، على بعض من هذه القيمة أو تلك، فهو يحتفظ في وجدانه بشيء من الحسين الشهيد (ع).
في سنوات خلت، كان المجتمع يتربى تحت منبر الحسين على الاستهانة بالسلطة وعدم الخنوع لطغيانها..كان القراء يتفننون في مد الجسور بين ما يؤمنون به وما يحرضون الناس عليه من تحد وجرأة ..وبين جمهور كان مستعدا لقبول هذه الجسور الوجدانية التي لا تكتفي بجعل مناسبة عاشوراء مناسبة لاستعادة فجيعة حسب، وإنما استعادة الفجيعة ومعها أيضا تستعاد البطولة والإرادة والثبات على الحق والفضيلة.
كانت الناس بحبها الذي جبلت عليه للحسين وآل بيته ولملحمتهم الكربلائية تنتظر هذا الامتزاج الطقوسي التحريضي..وكانت السلطة، بطغيانها واستهانتها بكرامة الناس وحقوقهم ترى في عاشوراء محنة لا تجتازها إلا بمزيد من السجون وقمع الحريات وحز الرقاب.
ذلك هو تاريخ بقي يتكرر..العدل في موازاة الظلم..والحق في مواجهة الباطل، والإنصاف في تحدي التعسف..ذلك ما جعل تاريخ العراقيين تاريخا للتحدي الذي يستضيء بالحسين، وتاريخا للمأساة التي تتضمخ بالتراب الكربلائي الطهور.
والآن، وإذ ترنو أبصار الناس وبصائرهم إلى تلك القباب الذهبية، إلى المعنى الكامن تحت أديمها، إلى النور الذي يشعشع على بريق ذهبها، إلى الفيض الروحي العطر تحت ثرياتها، فإنها ترنو إلى صورة العدل الذي ارتسم في وجدانها وعاشت وتربت عليه، صورة الحسين وهو يهتف في وجوه قاتليه ناصحا: كونوا أحراراً في دنياكم.
بهذا كان يفهم الإمام وابن الإمام معنى الحرية ومعنى الإيمان ومعنى الحياة، حيث لا إيمان بلا حرية ولا حرية بلا إيمان ولا حياة بلا حرية.