اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > من طفولة فقيرة في الصين الى عالمة

من طفولة فقيرة في الصين الى عالمة

حاسوب وذكاء اصطناعي في امريكا

نشر في: 3 يوليو, 2024: 12:34 ص

لطفية الدليمي
عاش برتراند رسل، الفيلسوف الانكليزي الأشهر في القرن العشرين، ما يقارب القرن(من عام 1872 حتى عام 1970). بدأ حياته مع مشهد العربات التي تجرها الخيول، ثم توفّي بعد سنة شهد فيها كيف وطأ الانسان القمر عبر صورة منقولة لحظياً بواسطة اتصالات فضائية متقدّمة. من يعشْ طويلاً في بيئة لا تلبث تتغيّر تقنياً بكيفية مستديمة سيكون كمن عاش في عوالم متعدّدة بدلاً من عالم واحد. ربما أراد رسل من كتابه (صورٌ من الذاكرة Portraits from Memory) الذي نشره بداية خمسينات القرن الماضي الاشارة إلى هذه العوالم المتعددة بطريقة استعارية بعد ان عاش نحو قرن من الزمان على الارض.
كلّ صورة من صور الذاكرة التي كتب عنها رسل هي عالمٌ كاملٌ يتمايز عن سواه. ألبرت آينشتاين، الفيزيائي النظري مبتدعُ النظرية النسبية الخاصة والعامة، كتب هو الآخر كتاباُ عام 1934 أسماه (العالم كما أراه The World as I See It)، ولعلّه أراد العالم المادي الذي تتعامل معه الفيزياء بمعادلاتها المثيرة. لم يعش آينشتاين عالماً واحداً بل شهد إنتقالات كثيرة في حياته: من ألمانيا القيصرية إلى ألمانيا النازية، ثم الانتقالة المثيرة إلى معهد الدراسات المتقدمة في جامعة برنستون الامريكية..
لكلٌّ منّا له عالمه الخاص. العالمُ ليس كينونة سكونية نتعاملُ معها برؤية موحّدة؛ بل هو نتاجٌ تفاعل معقّد بين أدمغتنا والمادة التي يتشكّل منها العالم. أدمغتنا هي الاخرى ليست كتلة مادية ساكنة. إنها حصيلةُ التطوّر المستديم لخبراتنا المستجدّة التي نصنعها بجهدنا الذاتي وشغفنا المدفوع برغبة لتغيير العالم أو - على الاقل- المساهمة في تشكيله. العالمُ الفقير تقنياُ الذي عاشهُ أسلافنا يختلف كل الاختلاف عن العالم المعقّد تقنياً الذي نعيشه، والعالم الذي يعيشه أحد الأشخاص ممّن عاشوا في قلب الغابات الأمازونية المطيرة أو قريباً من تخوم القطب الشمالي سيختلف حتماً عن ذاك الذي يعيشه شاب نيويوركي في قلب مانهاتن. كلٌّ منّا له عالمه الخاص الذي تؤثر عناصر كثيرة في تشكيله مثلما لنا دورنا الخاص - عندما نرغب- في المساهمة بقدر ما في صناعة العالم.
يبدو أنّ مثل هذه الافكار -أو ربّما قريباً منها- طافت بذهن الدكتورة فاي- فاي لي Fei-Fei Li، عالمة الحاسوب الامريكية صينية المولد، عندما إختارت لمذكراتها هذا العنوان: العوالم التي أرى The Worlds I See. المذكرات التي نشرت في (تشرين ثاني) من عام 2023، وهي مزيج ممتع ومتوازن من سيرة شخصية ومهنية يتداخل فيها الكفاح الشاق لعائلة " لي" مع شغفها وفضولها العلمي ورغبتها في وضع بصمتها المميزة والمفيدة في هذا العالم. السيرة العلمية والتقنية للبروفسورة لي مثيرة للانتباه، فقد ولدت عام 1976 في بلدة صينية فقيرة، ثم استطاعت بجهودها وجهود عائلتها أن تتبوّأ مواقع مرموقة على الصعيدين الاكاديمي والصناعي. شغلت موقع أستاذة علم الحاسوب في جامعة ستانفورد الامريكية، وأسّست مع بدايات العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين موقع البيانات المسمّى ImageNet الذي ساهم في تحقيق تقدّم سريع في حقل الرؤية الحاسوبية Computer Vision. إلى جانب هذا عملت لي في مجلس مدراء تويتر، وساهمت في تأسيس معهد ستانفورد للذكاء الاصطناعي المتمركز على البشر، كما شاركت في إدارة مختبر جامعة ستانفورد للرؤية والتعلّم الحاسوبي. تضم اهتمامات الدكتورة لي حقولا متعددة: الذكاء الاصطناعي، تعلّم الآلة، التعلّم العميق، الرؤية الحاسوبية، علم الاعصاب الادراكي(المعرفي).
تشارك لي في مذكراتها القارئ بحكاية رحلتها الملهمة بدءً من طفولتها المتواضعة في الصين حتى رحيلها الى امريكا وصولا إلى آخر إنجازاتها المتفوقة في الحقل الاكاديمي وصناعة الذكاء الاصطناعي. تفتتح لي كتاب مذكراتها بسرد عن الساعات المشحونة بالقلق التي سبقت الادلاء بشهادتها عام 2018 أمام لجنة الكونغرس الامريكي المختصة بشؤون العلم والفضاء والتقنية. كانت لي واحدة من أوائل المختصين الذين دعاهم الكونغرس للإدلاء بشهادتهم حول الذكاء الاصطناعي، وقد جاءت شهادتها بياناً معقلناً حول آفاق تطور الذكاء الاصطناعي، كما كانت هذه الشهادة إنطلاقة معقولة شرعت منها لي في سرد مذكراتها المثيرة.
في الفصول اللاحقة للمقدمة التمهيدية تشرع لي في حكاية رحلتها إبتداء من سنوات الطفولة ومطلع المراهقة في الصين عندما أحبّت الفيزياء وأرادتها أن تكون محور حياتها. عندما بلغت لي الخامسة عشرة سافرت برفقة أمها لتلتحق بأبيها في الولايات المتحدة الامريكية وكان قد غادر الصين قبل ثلاث سنوات. إستقرّت العائلة في نيوجيرسي، وعانت الكثير من مشقات الهجرة المعروفة إلى عالم مختلف عمّا عهدته العائلة في الصين، وكان اعتلال قلب الام سبباً إضافياً في تراكم المشقات على الأب والابنة. إلتقت لي في دراستها الثانوية بالاستاذ سابيلا مدرس الرياضيات، الذي سيصبح مرشدها وراعيها ثم ستنعقد بينهما صداقة تستمر حتى اليوم. جاهد سابيلا في تخليص لي من آثار الصدمة الثقافية، وعزّز الثقة في نفسها، كما ساعدها لتحصل على مقعد دراسي في جامعة برنستون النخبوية التي كانت مستقراً لبطلها السابق الذي أحبته دوماً ورأت فيه مثالها الاعلى: ألبرت آينشتاين. إقتنعت لي أنّ آينشتاين كان مهاجراً مثلها في أمريكا؛ فلِمَ لا تكون مثله؟
بعد أن حصلت لي على شهادتها الجامعية في الفيزياء من جامعة برنستون غادرتها إلى معهد كاليفورنيا التقني كالتك Caltech حيث حازت على شهادتي الماجستير والدكتوراه في الهندسة الكهربائية. ركّزت بحثها في الدكتوراه على العلاقة بين العلم العصبي Neuroscience والرؤية الحاسوبية، وكان هذا خياراً غريباً ونادراً حينذاك؛ لكنها تفوقت فيه حتى صارت أحد أعمدته على مستوى العالم. تحكي لي عقب هذا ذكرياتها عن كتابة ورقتها البحثية الاولى، والظروف التي عاشتها عندما قدّمت هذه الورقة في مؤتمر عالمي للرؤية الحاسوبية. بموازاة هذا الاستذكار الشخصي لا تنسى لي تذكير القارئ ببدايات الذكاء الاصطناعي في خمسينات وستينات القرن العشرين، وتأشير مواضع الانتصارات والانكفاءات في هذا الحقل البحثي الذي صار عنوان عصرنا الحالي. نجحت لي -كما أحسب- نجاحاً مبهراً في عرض حكايتها الشخصية في سياق التطوّر التاريخي للحقل البحثي الذي تتحدث عنه؛ لذا لا انفصال بين العالمين، وربما هذه هي الميزة المهمة لكلّ من يريد المساهمة في دفع عجلة التقدم العلمي والتقني: ثمة دوماً إشتباكٌ بين الشأن الخاص والعام.
أثّرت صحّة والدة لي المعتلّة على مسيرتها وجعلت حياتها في أمريكا سلسلة زيارات للمستشفى، وقد شجّعها هذا للبدء في تطوير أنظمة حاسوبية خاصة بالعناية الصحية الجماعية. شكّلت لي بمشاركة زملاء لها من الكلية الطبية الخاصة بجامعة ستانفورد نظاماً حاسوبياً أسموه Ambient Intelligence ارادوا منه مساعدة الاطباء ومزوّدي العناية الطبية في مهامهم اليومية. تصف الدكتورة لي هذا المشروع بأنّه أكثر المشروعات تطلباً بين المشروعات التي عمل مختبرها الحاسوبي في جامعة ستانفورد على جعله حقيقة عملية فعالة.
تحكي لي في أحد فصول الكتاب عن عملها في شركة غوغل. عام 2016 طلبت لي سنة تفرغ جامعية Sabbatical من ستانفورد لتعمل عالمة قائدة لمشروع غوغل في الحوسبة السحابية Google Cloud. كان هذا أول عمل تشرع فيه لي خارج نطاق الاكاديميا، ورأت فيه وسيلتها وفرصتها المتاحة للمساعدة في (دمقرطة) استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي وإتاحتها لأوسع جمهور ممكن من المستخدمين. كان الذكاء الاصطناعي حتى تلك السنة إحتكاراً بحثياً نظرياً في أقسام علم الحاسوب الجامعية؛ لكن حصل بعد عام 2016 ميل عظيم من جانب عمالقة التقنية الرقمية (غوغل ومايكروسوفت بالتحديد) لإستثمار ملايين الدولارات في البحوث وتطوير المنتجات الرقمية المعتمدة على الذكاء الاصطناعي، وهو ما شهدنا بوادره في سنوات لاحقة مثل تطوير محركات البحث التي يديرها الذكاء الاصطناعي. صار الذكاء الاصطناعي منذ ذلك الحين ميزة Privilege نوعية تتسابق لتوظيفها الشركات الكبرى. عقب إنتهاء عملها في شركة غوغل عادت لي إلى قسم علم الحاسوب في جامعة ستانفورد عام 2018، ومنذ ذلك الحين تركّز عملها على تطوير فكرة الذكاء الاصطناعي المتمركز على البشر Human-centered AI.
تروي لي في الفصول الختامية من مذكراتها عن التطورات التي حصلت في حقل الذكاء الاصطناعي منذ تأسيسها برنامج ImageNet وحتى أيّامنا هذه التي شهدنا فيها التعامل الحاسوبي المباشر مع نماذج اللغة الواسعة LLM والذكاء الاصطناعي التكويني Generative AI. تنهي لي مذكراتها بالحديث عن توقعاتها لما يمكن أن تثمر عنه جهودها المستقبلية التي يساندها طموح لا يهدأ في السعي للإنجاز وتحقيق إنعطافات تقنية مهمة.
مذكّرات كهذه تستحقُّ أن تلقى مقروئية واسعة لأسباب كثيرة منها أنها تروي لنا قصة كفاح مهاجرة صينية طموحة لخلق عالم جديد في بيئة تنافسية شرسة كالبيئة الامريكية، ثمّ أنها تقدّمُ لمن يسعى لتحقيق إنتقالة جدية علمية ومهنية في حياته خارطة طريق مقترحة لتحقيق النجاح في واحد من أكثر الحقول التقنية تسارعاً في العالم، وهو حقل الذكاء الاصطناعي الذي سيجعلنا نرى العالم بعيون جديدة كلّ بضع سنوات، وربّما كل بضعة أشهر في زمن قريب من اليوم.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق منارات

الأكثر قراءة

النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت

حوار مع الروائية الفيلسوفة أيريس مردوخ : الرواية الجيدة هي هِبة للإنسانية

"الزنا".. أحدث روايات الكاتب البرازيلي الشهير باولو كويلو

هل دجلة الخير للجواهري نهر؟

كيف تموت منتحرا؟

مقالات ذات صلة

برهان الخطيب: الرواية الكلاسيكية المتجددة المشوقة الفسيحة العميقة.. هي المطلوبة اليوم
عام

برهان الخطيب: الرواية الكلاسيكية المتجددة المشوقة الفسيحة العميقة.. هي المطلوبة اليوم

حاوره/ علاء المفرجي 2 -ولد الروائي برهان الخطيب في محافظة بابل عام 1944 وأكمل فيها تعليمة الابتدائي والثانوي. كان والده حسن الخطيب خريج أول دورة لتعليم اللغة الإنجليزية في العراق ثلاثينات القرن العشرين، وعمل...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram