طالب عبد العزيز
الصوت، اي صوت مثل الصور والحضور المادي، مادة جذب ونفور، وما نسمعه ونراه يتشكل في وعينا ولا وعينا أيضاً، ثم ينتظم مكوناً جزءاً من تاريخنا الانساني. كذلك تتشكل الموجودات في الزمن وفي أيِّ بيئة كانت، والانسان في البرية يختلف عن صنوه في الغابة والبحر والجبل، كذلك يكون الحيوان والوحش والطائر والزاحف. كلنا صنيعة ما يحيطنا. نصدر اصواتا وتتشكل لنا صور.
اتذكر انني كنت قد حضرتُ اليومَ الاخير في مجلس عزاء بالبصرة، بمسجد. جنوبي المدينة الحارة الرطبة، وقبل أن يمدَّ سادةُ المجلس مائدة الطعام. وتضوع رائحة اللحم بالرز المزعفر صعد الخطيب منبره ليقرأ ختمة القرآن التي ابتداها بالفاتحة وخواتيم سورة البقرة وتوسطها بقصار السور وانتهاها بالاخلاص في قراءة مختلفة،ليس اجمل منها، قبل أن يعرّج على نصِّ الختمة المكتوبة في دفتر صغير، لعله استله من بين دفاتر احد ابنائه، ثم اخذني بصوت شابته بحّةٌ لم اسمعها عند احد من قبل، انا المفتون باصوات منشدي الذكر والعزاء فتنتي باصوات كبار المطربين والمطربات. هل سمعتم بفن النهم، الذي يؤديه البحارة، وهل فتن احدٌ من قبل بصوت النهُام البحريني سليمان العمّاري؟ لقد كان الرجل كذلك! وكنت مفتونا، مسحوراً به والله.
هكذا كنت، ودونما كياسة، دونما خشية من تصوّر سيئ لم اتردد في جسدي عن لحظة هيامي تلك، فرحت محلقاً محتفلاً على طريقتي الخاصة بالصوت الشجي، وبالاداء الأخاذ لفن النهم. هنالك صوت يجيئ مشفوعاً بآلاف الزعانف الطائرة وبغربات وقواقع لا حدَّ لها.
ما كنت اعلم انَّ فنَّ النهم يصلح في ختمات مجالس العزاء. وما انا ممن يستهويه الكلام اكثر من التنغيم والترنيم به، لي قلب يذوب عشقا وهياماً باصوات القراء البغداديين بالمقامات المعروفة، كذلك اكون مع بعض القراء المصريين وهكذا لكنني انفر من اصوات كثيرة. ولا احتمل سماع المبتدئين، الذين يخطئون واصواتهم لا تتسق مع طبيعة المقامات، ولا احبُّ القارئ الا في مسجده ومدينه. اريد ان اتحسس جغرافية حنجرته، واقرأ تاريخها في فيه.
صوت مقرئُ القران في مسجد الحسين أو السيدة زينب او الازهر ياخذني الى الدولة الفاطمية وقاهرة المعز. وصوت جواد ذبيحي يحملني الى قم وخراسان، وصوت الحافظ صلاح الدين او الحافظ مهدي يوقفني على باب مسجد ومقام ابي حنيفة، ومن هناك يريني الذهب في قباب الامامين الكاظميين وصوت عبد الرحمن السديس يطوف بي في الحرم المكي وهكذا اكون في اسطنبول وطهران ودمشق، لكنْ ان اسمع صوت السديس في بغداد او صوت ذبيحي في البصرة فهذا ما لا يحتمل ولا يكون.
آلمني انني لم افتح آلة التسجيل الصوتي التي بهاتفي واحتفظ بصوت(الملّا) النّهام لاركب معه سفينة صوته، فاجذّف بعيداً، بعيداً، الى حيث تختفي الارض وتنأى السواحل، وحيث يخفق طائر في اللحاق بانثاه، وترتعد موجة بليل كنت اريد لبدني ان يقشعر طرباً، ولروحي ان تحلق بعيداً.هناك، هناك في سماوات لم تُستقبح بالأصوات النشاز. ثمة سفن توشك انْ تلقي حبالها.
قبل عامين سمعت انَّ الملّا النهام مات، استودع صوته في رملة على ساحل ازرق واحتفى.